الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: دلائل الإعجاز **
بسم الله الرحمن الرحيم أن الفصاحة في اللفظ لا المعنى قد أردنا أن نستأنف تقريراً نزيد به الناس تبصيراً أنهم في عمياء من أمرهم حتى يسلكوا المسلك الذي سلكناه ويفرغوا خواطرهم لتأمل ما استخرجناه وأنهم ما لم يأخذوا أنفسهم بذلك ولم يجردوا عناياتهم له في غرور كمن يعد نفسه الري من السراب اللامع ويخادعها بأكاذيب المطامع. يقال لهم إنكم تتلون قول الله تعالى: " فقالوا: الآن أيجوز أن يكون تعالى قد أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يتحدى العرب إلى أن يعارضوا القرآن بمثله من غير أن يكونوا قد عرفوا الوصف الذي إذا أتوا بكلام على ذلك الوصف كانوا قد أتوا بمثله ولا بد من لا لأنهم إن قالوا: يجوز أبطلوا التحدي من حيث إن التحدي كما لا يخفى مطالبة بأن يأتوا بكلام على وصف ولا تصح المطالبة بالإتيان به على وصف من غير أن يكون ذلك الوصف معلوماً للمطالب ويبطل بذلك دعوى الإعجاز أيضاً. وذلك لأنه لا يتصور أن يقال: إنه كان عجز حتى يثبت معجوز عنه معلوم. فلا يقوم في عقل عاقل أن يقول لخصم له: قد أعجزك أن تفعل مثل فعلي. وهو لا يشير إلى وصف يعلمه في فعله ويراه قد وقع عليه. أفلا ترى أنه لو قال رجل لآخر: إني قد أحدثت في خاتم عملته صنعة أنت لا تستطيع مثلها لم تتجه له عليه حجة ولم يثبت به أنه قد أتى بما يعجزه إلا من بعد أن يريه الخاتم ويشير له إلى ما زعم أنه أبدعه فيه من الصنعة لأنه لا يصح وصف الإنسان بأنه قد عجز عن شيء حتى يريد ذلك الشيء ويقصد إليه ثم لا يتأتى له. وليس يتصور أن يقصد إلى شيء لا يعلمه وأن تكون منه إرادة لأمر لم يعلمه في جملة ولا تفصيل. ثم إن هذا الوصف ينبغي أن يكون وصفاً قد تجدد بالقرآن وأمراً لم يوجد في غيره ولم يعرف قبل نزوله. وإذا كان كذلك فقد وجب أن يعلم أنه لا يجوز أن يكون في الكلم المفردة لأن تقدير كونه فيها يؤدي إلى المحال وهو أن تكون الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة قد حدث في حذاقة حروفها وأصدائها أوصاف لم تكن لتكون تلك الأوصاف فيها قبل نزول القرآن وتكون قد اختصت في أنفسها بهيئات وصفات يسمعها السامعون عليها إذا كانت متلوة في القرآن لا يجدون لها تلك الهيئات والصفات خارج القرآن. ولا يجوز أن تكون في معاني الكلم المفردة التي هي لها بوضع اللغة لأنه يؤدي إلى أن يكون قد تجدد في معنى الحمد والرب ومعنى العالمين والملك واليوم والدين. وهكذا وصف لم يكن قبل نزول القرآن. وهذا ما لو كان هاهنا شيء أبعد من المحال وأشنع لكان إياه. ولا يجوز أن يكون هذا الوصف في تركيب الحركات والسكنات حتى كأنهم تحدو إلى أن يأتوا بكلام تكون كلماته على تواليها في زنة كلمات القرآن وحتى كأن الذي بان به القرآن من الوصف في سبيل بينونة بحور الشعر بعضها من بعض لأنه يخرج إلى ما تعاطاه مسيلمة من الحماقة في: إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وجاهر والطاحنات طحناً. وكذلك الحكم إن زعم زاعم أن الوصف الذي تحدوا إليه هو أن يأتوا بكلام يجعلون له مقاطع وفواصل كالذي تراه في القرآن لأنه أيضاً ليس بأكثر من التعويل على مراعاة وزن وإنما الفواصل في الآي كالقوافي في الشعر. وقد علمنا اقتدارهم على القوافي كيف هو. فلو لم يكن التحدي إلا إلى فصول من الكلام يكون لها أواخر أشباه القوافي لم يعوزهم ذلك ولم يتعذر عليهم. وقد خيل إلى بعضهم إن كانت الحكاية صحيحة شيء من هذا حتى وضع على ما زعموا فصول كلام أواخرها كأواخر الآي مثل يعلمون ويؤمنون وأشباه ذلك. ولا يجوز أن يكون الإعجاز بأن لم يلتق في حروفه ما يثقل على اللسان. وجملة الأمر أنه لن يعرض هذا وشبهه من الظنون لمن يعرض له إلا من سوء المعرفة بهذا الشأن أو للخذلان أو لشهوة الإغراب في القول. ومن هذا الذي يرضى من نفسه أن يزعم أن البرهان الذي بان لهم والأمر الذي بهرهم والهيئة التي ملأت صدورهم والروعة التي دخلت عليهم فأزعجتهم حتى قالوا: إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمثمر. إنما كان بشيء راعهم من مواقع حركاته ومن ترتيب بينها وبين سكناته أو لفواصل في أواخر آياته من أين تليق هذه الصفة. وهذا التشبيه بذلك أم ترى أن ابن مسعود حين قال في صفة القرآن: لا يتفه ولا يتشان وقال: إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهم أي اتتبع محاسنهن قال ذلك من أجل أوزان الكلمات ومن أجل الفواصل في أواخر الآيات أم ترى أنهم لذلك قالوا: لا تفنى عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد أم ترى الجاحظ حين قال في كتاب النبوة: " ولو أن رجلاً قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة لتبين له في نظامها ومخرجها من لفظها وطابعها أنه عاجز عن مثلها. ولوتحدي بها أبلغ العرب لأظهر عجزه عنها لغا ولغط ". انظر إلى مثل ذلك فليس كلامه هذا مما ذهبوا إليه في شيء. وينبغي أن تكون موازنتهم بين بعض الآي وبين ما قاله الناس في معناها كموازنتهم بين: " ولا نعلمهم أرادوا غير ما يريده الناس إذا وازنوا بين كلام وكلام في الفصاحة والبلاغة ودقة النظم وزيادة الفائدة. ولولا أن الشيطان قد استحوذ على كثير من الناس في هذا وأنهم بترك النظر وإهمال التدبر ضعف النية وقصر الهمة وقد طرقوا له حتى جعل يلقي في نفوسهم كل محال وكل باطل وجعلوا هم يعطون الذي يلقيه حظاً من قبولهم ويبوؤنه مكاناً من قلوبهم لما بلغ من قدر هذه الأقوال الفاسدة أن تدخل في تصنيف ويعاد ويبدأ في تبيين لوجه الفساد فيها وتعريف. ثم إن هذه الشناعات التي تقدم ذكرها تلزم أصحاب الصرفة أيضاً. وذاك أنه لو لم يكن عجزهم عن معارضة القرآن وعن أن يأتوا بمثله لأنه معجز في نفسه لكن لأن أدخل عليهم العجز عنه وصرفت هممهم وخواطرهم عن تأليف كلام مثله. وكان حالهم على جملة حال من أعدم العلم بشيء قد كان يعلمه وحيل بينه وبين أمر قد كان يتسع له لكان ينبغي أن لا يتعاظمهم ولا يكون منهم ما يدل على إكبارهم أمره وتعجبهم منه وعلى أنه قد بهرهم وعظم كل العظم عندهم ولكان التعجب للذي دخل من العجز عليهم ولما رأوه من تغير حالهم ومن أن حيل بينهم وبين شيء قد كان عليهم سهلاً وأن سد دونه باب كان لهم مفتوحاً. أرأيت لو أن نبياً قال لقومه: إن آيتي أن أضع يدي على رأسي هذه الساعة وتمنعون كلكم من أن تستطيعوا وضع أيديكم على رؤوسكم وكان الأمر كما قال كم يكون تعجب القوم من وضعه يده على رأسه أم من عجزهم أن يضعوا أيديهيهم على رؤوسهم ونعود إلى النسق فنقول: فإذا بطل أن يكون الوصف الذي أعجزهم من القرآن في شيء مما عددناه لم يبق إلا أن يكون في الاستعارة. ولا يمكن أن تجعل الاستعارة الأصل في الإعجاز وأن يقصر عليها لأن ذلك يؤدي إلى أن يكون الإعجاز في آي معدودة في مواضع من السور الطوال مخصوصة. وإذا امتنع ذلك فيها لم يبق إلا أن يكون في النظم والتأليف لأنه ليس من بعد ما أبطلنا أن يكون فيه إلا النظم. وإذا ثبت أنه في النظم والتأليف وكنا قد علمنا أن ليس النظم شيئاً غير توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم وأنا إن بقينا الدهر نجهد أفكارنا حتى نعلم للكلم المفردة سلكاً ينظمها وجامعاً يجمع شملها ويؤلفها ويجعل بعضها بسبب من بعض غير توخي معاني النحو وأحكامه فيها طلبنا ما كل محال دونه. فقد بان وظهر أن المتعاطي القول في النظم والزاعم أنه يحاول بيان المزية فيه وهو لا يعرض فيما يعيده ويبديه للقوانين والأصول التي قدمنا ذكرها ولا يسلك إليك المسالك التي نهجناها في عمياء من أمره وفي غرور من نفسه وفي خداع من الأماني والأضاليل ذاك لأنه إذا كان لا يكون النظم شيئاً غير توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم كان من أعجب العجب حين يزعم زاعم أنه يطلب المزية في النظم ثم لا يطلبها في معاني النحو وأحكامه التي النظم عبارة عن توخيها فيما بين الكلم. فإن قيل: قولك: إلا النظم يقتضي إخراج ما في القرآن من الاستعارة وضروب المجاز من جملة ما هو به معجز وذلك ما لا مساغ له. قيل: ليس الأمر كما ظننت بل ذلك يقتضي دخول الاستعارة ونظائرها فيما هو به معجز. وذلك لأن هذه المعاني التي هي الاستعارة والكناية والتمثيل وسائر ضروب المجاز من بعدها من مقتضيات النظم. وعنها يحدث وبها يكون. لأنه لا يتصور أن يدخل شيء منها في الكلم وهي أفراد لم يتوخ فيما بينها حكم من أحكام النحو فلا يتصور أن يكون هاهنا فعل أو اسم قد دخلته الاستعارة من دون أن يكون قد ألف مع غيره. أفلا ترى أنه إن قدر في اشتعل من قوله تعالى: " وهكذا السبيل في نظائر الاستعارة فاعرف ذلك. واعلم أن السبب في أن لم يقع النظر منهم موقعه أنهم حين قالوا: نطلب المزية ظنوا أن موضعها اللفظ بناء على أن النظم نظم الألفاظ وأنه يلحقها دون المعاني. و ظنوا أن موضعها ذلك واعتقدوه وقفوا على اللفظ وجعلوا لا يرمون بأوهامهم إلى شيء سواه. إلا أنهم على ذاك لم يستطيعوا أن ينطقوا في تصحيح هذا الذي ظنوه بحرف بل لم يتكلموا بشيء إلا كان ذلك نقضاً وإبطالاً لأن يكون اللفظ من حيث هو لفظ موضعاً للمزية وإلا رأيتهم قد اعترفوا من حيث لم يدروا بأن ليس للمزية التي طلبوها موضع ومكان تكون فيه إلا معاني النحو وأحكامه. وذلك أنهم قالوا: إن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلمات وإنما تظهر بالضم على طريقة مخصوصة. فقولهم: بالنظم لا يصح أن يراد به النطق باللفظة بعد اللفظة من غير اتصال يكون بين معنييهما لأنه لو جاز أن يكون لمجرد ضم اللفظ إلى اللفظ تأثير في الفصاحة لكان ينبغي إذا قيل: ضحك خرج أن يحدث من ضم خرج إلى ضحك فصاحة. وإذا بطل ذلك لم يبق إلا أن يكون المعنى في ضم الكلمة إلى الكلمة توخي معنى من معاني النحو فيما بينهما. وقولهم: على طريقة مخصوصة يوجب ذلك أيضاً وذلك أنه لا يكون للطريقة إذا أنت أردت مجرد اللفظ معنى وهذا سبيل كل ما قالوه إذا أنت تأملته تراهم في الجميع قد دفعوا إلى جعل المزية في معاني النحو وأحكامه من حيث لم يشعروا ذلك لأنه أمر ضروري لا يمكن الخروج منه. ومما تجدهم يعتمدونه ويرجعون إليه قولهم: إن المعاني لا تتزايد وإنما تتزايد الألفاظ. وهذا كلام إذا تأملته لم تجد له معنى يصح عليه غير أن تجعل تزايد الألفاظ عبارة عن المزايا التي تحدث من توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم لأن التزايد في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ونطق لسان محال. ثم إنا نعلم أن المزية المطلوبة في هذا الباب مزية فيما طريقه الفكر والنظر من غير شبهة. ومحال أن يكون اللفظ له صفة تستنبط بالفكر ويستعان عليها بالروية. اللهم إلا أن تريد تأليف النغم وليس ذلك مما نحن فيه بسبيل. ومن هاهنا لم يجز إذا عدت الوجوه التي تظهر بها المزية أن يعد فيها الإعراب وذلك أن العلم بالإعراب مشترك بين العرب كلهم وليس هو مما يستنبط بالفكر ويستعان عليه بالروية. فليس أحدهم بأن إعراب الفاعل الرفع أو المفعول النصب والمضاف إليه الجر بأعلم من غيره ولا ذاك المفعول به مما يحتاجون فيه إلى حدة ذهن وقوة خاطر إنما الذي تقع الحاجة فيه إلى ذلك العلم بما يوجب الفاعلية للشيء إذا كان إيجابها من طريق المجاز كقوله تعالى: " وليس يكون هذا علماً بالإعراب ولكن بالوصف الموجب للإعراب. ومن ثم لا يجوز لنا أن نعتد في شأننا هذا بأن يكون المتكلم قد استعمل من اللغتين في الشيء ما يقال إنه أفصحهما وبأن يكون قد تحفظ مما تخطىء فيه العامة لا بأن يكون قد استعمل الغريب لأن العلم بجميع ذلك لا يعدو أن يكون علماً باللغة بأنفس الكلم المفردة وبما طريقه الحفظ دون ما يستعان عليه بالنظر ويوصل إليه بإعمال الفكر. ولئن كانت العامة وأشباه العامة لا يكادون يعرفون الفصاحة غير ذلك فإن من ضعف النحيزة إخطار مثله في الفكر وإجراءه في الذكر. وأنت تزعم أنك ناظر في دلائل الإعجاز أترى أن العرب تحدوا أن يختارو الفتح في الميم من الشمع والهاء من النهر على الإسكان. وأن يتحفظوا من تخليط العامة في مثل هذا يسوى ألفاً أو إلى أن يأتوا بالغريب الوحشي في الكلام يعارضون به القرآن. كيف وأنت تقرأ السورة من السور الطوال فلا تجد فيها من الغريب شيئاً وتأمل ما جمعه العلماء في غريب القرآن فترى الغريب منه إلا في القليل إنما كان غريباً من أجل استعارة هي فيه كمثل: " إنما ترى ذلك في كلمات معدودة كمثل: " ثم إنه لو كان أكثر ألفاظ القرآن غريباً لكان محالاً أن يدخل في الإعجاز وأن يصح التحدي به. ذاك لأنه لا يخلو إذا وقع التحدي به من أن يتحدى من له علم بأمثاله من الغريب أو من لا علم له بذلك. فلو تحدي به من يعلم أمثاله لم يتعذر عليه أن يعارضه بمثله ألا ترى أنه لا يتعذر عليك إذا أنت عرفت ما جاء من الغريب في معنى الطويل أن تعارض من يقول الشوقب بأن تقول أنت: الشوذب. وإذا قال: الأمق أن تقول: الأشق وعلى هذا السبيل. ولو تحدي به من لا علم له بأمثال ما فيه من الغريب كان ذلك بمنزلة أن يتحدى العرب إلى أن يتكلموا بلسان الترك. هذا وكيف بأن يدخل الغريب في باب الفضيلة وقد ثبت عنهم أنهم كانوا يرون الفضيلة في ترك استعماله وتجنبه. أفلا ترى إلى قول عمر رضي الله عنه في زهير: " إنه كان لا يعاظل بين القول ولا يتتبع حوشي الكلام. فقرن تتبع الحوشي وهو الغريب من غير شبهة إلى المعاظلة التي هي التعقيد. وقال الجاحظ في كتاب البيان والتبيين: ورأيت الناس يتداولون رسالة يحيى بن يعمر عن لسان يزيد بن المهلب إلى الحجاج: " إنا لقينا العدو فقتلنا طائفة ولحقت طائفة " بعراعر الأودية وأهضام الغيطان وبتنا بعرعرة الجبل وبات العدو بحضيضه ". فقال الحجاج: ما يزيد بأبي عذر هذا الكلام. فحمل إليه فقال: أين ولدت فقال: بالأهواز فقال: فأنى لك هذه الفصاحة قال: أخذتها عن أبي. قال: ورأيتهم يديرون في كتبهم أن امرأة خاصمت زوجها إلى يحيى بن يعمر فانتهرها مراراً. فقال له يحيى: إن سألتك ثمن شكرها وشبرك أنشأت تطلها وتضهلها ثم قال: وإن كانوا قد رووا هذا الكلام لكي يدل على فصاحة وبلاغة فقد باعده الله من صفة البلاغة والفصاحة. واعلم أنك كلما نظرت وجدت سبب الفساد واحداً وهو ظنهم الذي ظنوه في اللفظ وجعلهم الأوصاف التي تجري عليه كلها أوصافاً له في نفسه ومن حيث هو لفظ. وتركهم أن يميزوا بين ما كان وصفاً له في نفسه وبين ما كانوا قد أكسبوه إياه من أجل أمر عرض في معناه. ولما كان هذا دأبهم ثم رأوا الناس وأظهر شيء عندهم في معنى الفصاحة تقويم الإعراب والتحفظ من اللحن لم يشكوا أنه ينبغي أن يعتد به في جملة المزايا التي يفاضل بها بين كلام وكلام في الفصاحة. وذهب عنهم أن ليس هو من الفصاحة التي يعنينا أمرها في شيء. وإن كلامنا في فصاحة تجب للفظ لا من أجل شيء يدخل في النطق. ولكن من أجل لطائف تدرك بالفهم. وإنا نعتبر في شأننا هذا فضيلة تجب لأحد الكلامين على الآخر من بعد أن يكونا قد برئا من اللحن وسلما في ألفاظهما من الخطأ. ومن العجب أنا إذا نظرنا في الإعراب وجدنا التفاضل فيه محالاً لأنه لا يتصور أن يكون للرفع والنصب في كلام مزية عليهما في كلام آخر وإنما الذي يتصور أن يكون هاهنا كلامان قد وقع في إعرابهما خلل ثم كان أحدهما أكثر صواباً من الآخر. وكلامان قد استمر أحدهما على الصواب ولم يستمر الآخر. ولا يكون هذا تفاضلاً في الإعراب ولكن تركاً له في شيء واستعمالاً له في آخر فاعرف ذلك. وجملة الأمر أنك لا ترى ظناً هو أنأى بصاحبه عن أن يصح له كلام أو يستمر له نظام أو تثبت له قدم أو ينطق منه إلا بالمحال فم من ظنهم هذا الذي حام بهم حول اللفظ وجعلهم لا يعدونه ولا يرون للمزية مكاناً دونه. واعلم أنه قد يجري في العبارة منا شيء هو يعيد الشبهة جذعة عليهم وهو أنه يقع في كلامنا أن الفصاحة تكون في المعنى دون اللفظ ونراها لا تدخل في صفة المعنى البتة نرى الناس قاطبة يقولون: هذا لفظ فصيح وهذه ألفاط فصيحة. ولا نرى عاقلاً يقول: هذا معنى فصيح وهذه معان فصاح. ولو كانت الفصاحة تكون في المعنى لكان ينبغي أن يقال ذاك. كما أنه لما كان الحسن يكون فيه قيل: هذا معنى حسن وهذه معان حسنة. وهذا شيء يأخذ من الغر والجواب عنه أن يقال: إن غرضنا من قولنا: إن الفصاحة تكون في المعنى أن المزية التي من أجلها استحق اللفظ الوصف بأنه فصيح عائدة في الحقيقة إلى معناه. ولو قيل إنها تكون فيه دون معناه لكان ينبغي إذا قلنا في اللفظة إنها فصيحة أن تكون تلك الفصاحة واجبة بكل حال. ومعلوم أن الأمر بخلاف ذلك فإنا نرى اللفظة تكون في غاية الفصاحة في موضع ونراها بعينها فيما لا يحصى من المواضع وليس فيها من الفصاحة قليل ولا كثير. ما كان كذلك لأن المزية التي من أجلها نصف اللفظ في شأننا هذا بأنه فصيح مزية تحدث من بعد أن لا تكون وتظهر في الكلم من بعد أن يدخلها النظم. وهذا شيء إن أنت طلبته فيها وقد جئت بها أفراداً لم ترم فيها نظماً ولم تحدث لها تأليفاً طلبت محالاً. وإذا كان كذلك وجب أن يعلم قطعاً وضرورة أن تلك المزية في المعنى دون اللفظ. وعبارة أخرى في هذا بعينه وهي أن يقال: قد علمنا علماً لا تعترض معه شبهة أن الفصاحة فيما نحن فيه عبارة عن مزية هي بالمتكلم دون واضع اللغة. وإذا كان كذلك فينبغي لنا أن ننظر إلى المتكلم هل يستطيع أن يزيد من عند نفسه في اللفظ شيئاً ليس هو له في اللغة حتى يجعل ذلك من صنيعه مزية يعبر عنها بالفصاحة. وإذا نظرنا وجدناه لا يستطيع أن يصنع باللفظ شيئاً أصلاً ولا أن يحدث فيه وصفاً. كيف وهو إن فعل ذلك أفسد على نفسه وأبطل أن يكون متكلماً لأنه لا يكون متكلماً حتى يستعمل أوضاع لغة على ما وضعت هي عليه. وإذا ثبت من حاله أنه لا يستطيع أن يصنع بالألفاظ شيئاً ليس هو لها في اللغة. وكنا قد اجتمعنا على أن الفصاحة فيما نحن فيه عبارة عن مزية هي بالمتكلم البتة وجب أن نعلم قطعاً وضرورة أنهم وإن كانوا قد جعلوا الفصاحة في ظاهر الاستعمال من صفة اللفظ فإنهم يجعلوها وصفاً له في نفسه ومن حيث هو صدى صوت ونطق لسان ولكنهم جعلوها عبارة عن مزية أفادها المتكلم ولما لم تزد إفادته في اللفظ شيئاً لم يبق إلا أن تكون عبارة عن مزية في المعنى. وجملة الأمر أنا لا نوجب الفصاحة للفظة مقطوعة مرفوعة من الكلام الذي هي فيه ولكنا نوجبها لها موصولة بغيرها ومعلقاً معناها بمعنى ما يليها. فإذا قلنا في لفظة اشتعل من قوله تعالى: " هذا وإنما يقع ذلك في الوهم لمن يقع له أعني أن توجب الفصاحة للفظة وحدها فيما كان استعارة. فأما ما خلا من الاستعارة من الكلام الفصيح البليغ فلا يعرض توهم ذلك فيه لعاقل أصلاً. أفلا ترى أنه لا يقع في نفس من يعقل أدنى شيء إذا هو نظر إلى قوله عز وجل: " و وإلى إكبار الناس شأن هذه الآية في الفصاحة أن يضع يده على كلمة كلمة منها فيقول: إنها فصيحة كيف وسبب الفصاحة فيها أمور لا يشك عاقل في أنها معنوية: أولها: أن كانت على فيها متعلقة بمحذوف في موضع المفعول الثاني. والثاني: أن كانت الجملة التي هي هم العدو بعدها عارية من حرف عطف. والثالث: التعريف في العدو وأن لم يقل: هم عدو. ولو أنك علقت على بظاهر وأدخلت على الحملة التي هي هم العدو حرف عطف وأسقطت الآلف واللام من العدو فقلت: يحسبون كل صيحة واقعة عليهم وهم عدو لرأيت الفصاحة قد ذهبت عنها بأسرها. ولو أنك أخطرت ببالك أن يكون عليهم متعلقاً بنفس الصيحة ويكون حاله معها كحاله إذا قلت: صحت عليه لأخرجته عن أن يكون كلاماً فضلاً عن أن يكون فصيحاً. وهذا هو الفيصل لمن عقل. ومن العجيب في هذا ما روي عن أمير المؤمنين علي رضوان الله عليه أنه قال: ما سمعت كلمة عربية من العرب إلا وسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسمعته يقول: " مات حتف أنفه " وما سمعتها من عربي قبله. لا شبهة في أن وصف اللفظ بالعربي في مثل هذا يكون في معنى الوصف بأنه فصيح. وإذا كان الأمر كذلك فانظر هل يقع في وهم متوهم أن يكون رضي الله عنه قد جعلها عربية من أجل ألفاظها وإذا نظرت لم تشك في ذلك. واعلم أنك تجد هؤلاء الذين يشكون فيما قلناه تجري على ألسنتهم ألفاط وعبارات لا يصح لها معنى سوى توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين معاني الكلم. ثم تراهم لا يعلمون ذلك. فمن ذلك ما يقوله الناس قاطبة من أن العاقل يرتب في نفسه ما يريد أن يتكلم به. وإذا رجعنا إلى أنفسنا لم نجد لذلك معنى سوى أنه يقصد إلى قولك ضرب فيجعله خبراً عن زيد ويجعل الضرب الذي أخبر بوقوعه منه واقعاً على عمرو ويجعل يوم الجمعة زمانه الذي وقع فيه ويجعل التأديب غرضه الذي فعل الضرب من أجله فيقول: ضرب زيد عمراً يوم الجمعة تأديباً له. وهذا كما ترى هو توخي معاني النحو فيما بيبن معاني هذه الكلم. ولو أنك فرضت أن لا تتوخى في ضرب أن تجعله خبراً عن زيد وفي عمرو أن تجعله مفعولاً به لضرب وفي يوم الجمعة أن تجعله زماناً لهذا الضرب وفي التأديب أن تجعله غرض زيد من فعل الضرب ما تصور في عقل ولا وقع في وهم أن تكون مرتباً لهذه الكلم. وإذ قد عرفت ذلك فهو العبرة في الكلام كله فمن ظن ظناً يؤدي إلى خلافه ظن ما يخرج به عن المعقول. ومن ذلك إثباتهم التعلق والاتصال فيما بين الكلم وصواحبها تارة ونفيهم لهما أخرى. ومعلوم علم الضرورة أن لن يتصور أن يكون للفظة تعلق بلفظة أخرى من غير أن تعتبر حال معنى هذه مع معنى تلك. ويراعى هناك أمر يصل إحداهما بأخرى كمراعاة نبك جواباً للأمر في قوله: قفا نبك: وكيف بالشك في ذلك. ولو كانت الألفاظ يتعلق بعضها ببعض من حيث هي ألفاط ومع اطراح النظر في معانيها لأدى ذلك إلى أن يكون الناس حين ضحكوا مما يصنعه المجان من قراء أنصاف الكتب ضحكوا عن جهالة وأن يكون أبو تمام قد أخطأ حين قال: عذلاً شبيهاً بالجنون كأنما قرأت به الورهاء شطر كتاب لأنهم لم يضحكوا إلا من عدم التعلق ولم يجعله أبو تمام جنوناً إلا لذلك فانظر إلى ما يلزم هؤلاء القوم من طرائف الأمور. هذا فن من الاستدلال لطيف على بطلان أن تكون الفصاحة صفة للفظ من حيث هو لفظ لا تخلو الفصاحة من أن تكون صفة في اللفظ محسوسة تدرك بالسمع أو تكون صفة فيه معقولة تعرف بالقلب. فمحال أن تكون صفة اللفظ محسوسة لأنها لو كانت كذلك لكان ينبغي أن يستوي السامعون للفظ الفصيح في العلم بكونه فصيحاً. وإذا بطل أن تكون محسوسة وجب الحكم ضرورة بأنها صفة معقولة. وإذا وجب الحكم بكونها صفة معقولة فإنا لا نعرف للفظ صفة يكون طريق معرفتها العقل دون الحس إلا دلالته على معناه. وإذا كان كذلك لزم منه العلم بأن وصفنا اللفظ بالفصاحة وصف له من جهة معناه لا من جهة نفسه. وهذا ما لا يبقى لعاقل معه عذر في الشك والله الموفق للصواب. وبيان آخر وهو أن القارىء إذا قرأ قوله تعالى: " فلو كانت الفصاحة صفة للفظ اشتعل لكان ينبغي أن يحسها القارىء فهي حال نطقه به فمحال أن تكون للشيء صفة ثم لا يصح العلم بتلك الصفة إلا من بعد عدمه. ومن ذا رأى صفة يعرى موصوفها عنها في حال وجوده حتى إذا عدم صارت موجودة فيه وهل سمع السامعون في قديم الدهر وحديثه بصفة شرط حصولها لموصوفها أن يعدم الموصوف. فإن قالوا إن الفصاحة التي ادعيناها للفظ اشتعل تكون فيه في حال نطقنا به إلا أنا نعلم في تلك الحال أنها فيه فإذا بلغنا آخر الكلام علمنا حينئذ أنها كانت فيه حين نطقنا. قيل: هذا فن آخر من العجب وهو أن تكون هاهنا صفة موجودة في شيء ثم لا يكون في الإمكان ولا يسع في الجواز أن نعلم وجود تلك الصفة في ذلك الشيء إلا بعد أن يعدم. ويكون العلم بها وبكونها فيه محجوباً عنا حتى يعدم فإذا عدم علمنا أنها كانت فيه حين كان. ثم إنه لا شبهة في أن هذه الفصاحة التي يدعونها للفظ هي مدعاة لمجموع الكلمة دون آحاد حروفها إذ ليس يبلغ بهم تهافت الرأي إلى أن يدعوا لكل واحد من حروف اشتعل فصاحة فيجعلوا الشين على حدته فصيحاً وكذلك التاء والعين واللام. وإذا كانت الفصاحة مدعاة لمجموع الكلمة لم يتصور حصولها لها إلا من بعد أن تعدم كلها وينقضي أمر النطق بها. ذلك لأنه لا يتصور أن تدخل الحروف بجملتها في النطق دفعة واحدة حتى تجعل الفصاحة موجودة فيها في حال وجودها وما بعد هذا إلا أن نسأل الله تعالى العصمة والتوفيق. فقد بلغ الأمر في الشناعة إلى حد إذا انتبه العاقل لف رأسه حياء من العقل حين يراه قد قال قولاً هذا مؤداه وسلك مسلكاً إلى هذا مفضاه. وما مثل من يزعم أن الفصاحة صفة اللفظ من حيث هو لفط ونطق لسان ثم يزعم أنه يدعيها لمجموع حروفه دون آحادها إلا مثل من يزعم أن هاهنا غزلاً إذا نسج منه ثوب كان أحمر وإذا فرق ونظر إليه خيطاً خيطاً لم تكن فيه حمرة أصلاً. ومن طريف أمرهم أنك ترى كافتهم لا ينكرون أن اللفظ المستعار إذا كان فصيحاً كانت فصاحته تلك من أجل استعارته ومن أجل لطف وغرابة كانا فيها. وتراهم مع ذلك لا يشكون في أن الاستعارة لا تحدث في حروف اللفظ صفة ولا تغير أجراسها عما تكون عليه إذا لم يكن مستعاراً وكان متروكاً على حقيقته. وأن التأثير من الاستعارة إنما يكون في المعنى كيف وهم يعتقدون أن اللفظ إذا استعير لشيء نقل عن معناه الذي وضع له بالكلية. وإذا كان الأمر كذلك فلولا إهمالهم أنفسهم وتركهم النظر لقد كان يكون في هذا ما يوقظهم من غفلتهم ويكشف الغطاء عن أعينهم. ومما ينبغي أن يعلمه الإنسان ويجعله على ذكر أنه لا يتصور أن يتعلق الفكر بمعاني الكلم أفراداً ومجردة من معاني النحو فلا يقوم في وهم ولا يصح في عقل أن يتفكر متفكر في معنى فعل من غير أن يريد إعماله في اسم. ولا أن يتفكر في معنى اسم من غير أن يريد إعمال فعل فيه وجعله فاعلاً له أو مفعولاً. أو يريد منه حكماً سوى ذلك كل الأحكام مثل أن يريد جعله مبتدأ أو خبراً أو صفة أو حالاً أو ما شاكل ذلك. وإن أردت أن ترى ذلك عياناً فاعمد إلى أي كلام شئت وأزل أجزاءه عن مواضعها وضعها وضعاً يمتنع معه دخول شيء من معاني النحو فيها فقل في: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل من نبك قفا حبيب ذكرى منزل ثم انظر هل يتعلق منك فكر بمعنى كلمة منها واعلم أني لست أقول إن الفكر لايتعلق بمعاني الكلم المفردة أصلاً ولكني أقول إنه لا يتعلق بها مجردة من معاني النحو ومنطوقاً بها على وجه لا يتأتى معه تقدير معاني النحو وتوخيها فيها كالذي أريتك. وإلا فإنك إذا فكرت في الفعلين أو الاسمين تريد أن تخبر بأحدهما عن الشيء أنهما أولى أن تخبر به عنه وأشبه بغرضك مثل أن تنظر أيهما أمدح وأذم أو فكرت في الشيئين تريد أن تشبه الشيء بأحدهما أيهما أشبه به كنت قد فكرت في معاني أنفس الكلم. إلا أن فكرك ذلك لم يكن إلا من بعد أن توخيت فيها من معاني النحو وهو أن أردت جعل الاسم الذي فكرت فيه خبراً عن شيء أردت فيه مدحاً أو فماً أو تشبيهاً أو غير ذلك من الأغراض. ولم تجىء إلى فعل أو اسم ففكرت فيه فرداً ومن غير أن كان لك قصد أن تجعله خبراً أو غير خبر فاعرف ذلك. وإن أردت مثالاً فخذ بيت بشار من الطويل: كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه وانظر هل يتصور أن يكون بشار قد أخطر معاني هذا الكلم بباله أفراداً عارية من معاني النحو التي تراها فيها. وأن يكون قد وقع كأن في نفسه من غير أن يكون قصد إيقاع التشبيه منه على شيء. وأن يكون فكر في مثار النقع من غير أن يكون أراد إضافة الأول إلى الثاني. وفكر في فوق رؤوسنا من غير أن يكون قد أراد أن يضيف فوق إلى الرؤوس وفي الأسياف من دون أن يكون أراد عطفها بالواو على مثار وفي الواو من دون أن يكون أراد العطف بها. وأن يكون كذلك فكر في الليل من دون أن يكون أراد أن يجعله خبراً لكأن وفي تهاوى كواكبه من دون أن يكون أراد أن يجعل تهاوى فعلاً للكواكب ثم يجعل الجملة صفة لليل ليتم الذي أراد من التشبيه أم لم تخطر هذه الأشياء بباله إلا مراداً فيه هذه الأحكام والمعاني التي تراها فيها. وليت شعري كيف يتصور وقوع قصد منك إلى معنى كلمة من دون أن تريد تعليقها بمعنى كلمة أخرى ومعنى القصد إلى معاني الكلم أن تعلم السامع بها شيئاً لا يعلمه ومعلوم أنك أيها المتكلم لست تقصد أن تعلم السامع معاني الكلم المفردة التي تكلمه بها فلا تقول: خرج زيد لتعلمه معنى خرج في اللغة ومعنى زيد كيف ومحال أن تكلمه بألفاظ لا يعرف هو معانيها كما تعرف. ولهذا لم يكن الفعل وحده من دون الاسم و الاسم وحده من دون اسم اخر أو فعل كلاماً. وكنت لو قلت: خرج ولم تأت باسم و قدرت فيه ضمير الشيء أو قلت: زيد ولم تأت بفعل ولا اسم آخر ولم تضمره في نفسل كان ذلك وصوتاً تصوته سواء فاعرفه. واعلم أن مثل واضع الكلام مثل من يأخذ قطعاً من الذهب أو الفضة فيذيب بعض في بعض حتى تصير قطعة واحدة. وذلك أنك إذا قلت: ضرب زيد عمراً يوم الجمعة ضرباً شديداً تأديباً له فإنك تحصل من مجموع هذه الكلم كلها على مفهوم هو معنى واحد لا عدة معان كما يتوهمه الناس. وذلك لأنك لم تأت بهذه الكلم لتفيده أنفس معانيها وإنما جئت بها لتفيده وجوه التعلق التي بين الفعل الذي هو ضرب وبين ما عمل فيه والأحكام التي هي محصول التعلق. وإذا كان الأمر كذلك فينبغي لنا أن ننظر في المفعولية من عمرو وكون يوم الجمعة زماناً للضرب وكون الضرب ضرباً شديداً وكون التأديب عاة للضرب. أيتصور فيها أن تفرد عن المعنى الأول الذي هو أصل الفائدة وهو إسناد ضرب إلى زيد وإثبات الضرب به له حتى يعقل كون عمرو مفعولاً به وكون يوم الجمعة مفعولاً فيه وكون ضرباً شديداً مصحراً وكون التأديب مفعولاً له من غير أن يخطر ببالك كون زيد فاعلاً للضرب وإذا نظرنا وجدنا ذلك لا يتصور لأن عمراً مفعول لضرب وقع من زيد عليه ويوم الجمعة زمان لضرب وقع من زيد وضرباً شديداً بيان لذلك الضرب كيف هو وما صفته والتأديب علة له وبيان أنه كان الغرض منه. وإذا كان ذلك كذلك بان منه. وثبت أن المفهوم من مجموع الكلم معنى واحد لا عدة معان وهو إثباتك زيداً فاعلاً ضرب لعمرو في وقت كذا وعلى صفة كذا ولغرض كذا. ولهذا المعنى تقول: إنه كلام واحد. وإذ قد عرفت هذا فهو العبرة أبداً فبيت بشار إذا تأملته وجدته كالحلقة المفرغة التي لا تقبل التقسيم ورأيته قد صنع في الكلم التي فيه ما يصنعه الصانع حين يأخذ كسراً من الذهب فيذيبها ثم يصبها في قالب ويخرخها لك سواراً أو خلخالاً. وإن أنت حاولت قطع بعض ألفاظ البيت عن بعض كنت كمن يكسر الحلقة ويفصم السوار. وذلك أنه لم يرد أن يشبه النقع بالليل على حدة والأسياف بالكواكب على حدة. ولكنه أراد أن يشبه النقع والأسياف تجول فيه بالليل في حال ما تنكدر الكواكب وتتهاوى فيه. فالمفهوم من الجميع مفهوم واحد والبيت من أوله إلى أخره كلام واحد. فانظر الآن ما تقول في اتحاد هذه الكلم التي هي أجزاء البيت أتقول: إن ألفاظها اتحدت فصارت لفظة واحدة أم تقول: إن معانيها اتحدت فصارت الألفاظ من أجل ذلك كأنها لفظة واحدة فإن كنت لا تشك أن الاتحاد الذي تراه هو في المعاني إذ كان من فساد العقل ومن الذهاب في الخبل أن يتوهم متوهم أن الألفاظ يندمج بعضها في بعض حتى تصير لفظة واحدة. فقد أراك ذلك إن لم تكابر عقلك أن النظم يكون في معاني الكلم دون ألفاظها وأن نظمها هو توخي معاني النحو فيها. وذلك أنه إذا ثبت الاتحاد وثبت أنه في المعاني فينبغي أن تنظر إلى الذي به اتحدت المعاني في بيت بشار. وإذا نظرنا لم نجدها اتحدت إلا بأن جعل مثار النقع اسم كأن وجعل الظرف الذي هو فوق رؤوسنا معمولاً لمثار ومعلقاً به وأشرك الأسياف في كأن بعطفه لها على مثار ثم بأن قال: ليل تهاوى كواكبه فأتى بالليل نكرة وجعل جملة قوله: تهاوى كواكبه له صفة ثم جعل مجموع ليل تهاوى كواكبه خبراً لكأن. فانظر هل ترى شيئاً كان الاتحاد به غير ما عددناه وهل تعرف له موجباً سواه فلولا الإخلاد إلى الهوينا وترك النظر وغطاء ألقي على عيون أقوام لكان ينبغي أن يكون في هذا وحده الكفاية وما فوق الكفاية. ونسأل الله تعالى التوفيق. واعلم أن الذي هو آفة هؤلاء الذين لهجوا بالأباطيل في أمر اللفظ أنهم قوم قد أسلموا أنفسهم إلى التخيل وألقوا مقادتهم إلى الأوهام حتى عدلت بهم عن الصواب كل معدل ودخلت بهم من فحش الغلط في كل مدخل وتعسفت بهم في كل مجهل وجعلتهم يرتكبون في نصرة رأيهم الفاسد القول بكل محال ويقتحمون في كل جهالة. حتى إنك لو قلت لهم: إنه لا يتأتى للناظم نظمه إلا بالفكر والروية فإذا جعلتم النظم في الألفاظ لزمكم من ذلك أن تجعلوا فكر الإنسان إذا هو فكر في نظم الكلام فكراً في الألفاظ التي يريد أن ينطق بها دون المعاني لم يبالوا أن يرتكبوا ذلك وأن يتعلقوا فيه بما في العادة ومجرى الجبلة من أن الإنسان يخيل إليه إذا هو فكر أنه كان ينطق في نفسه بالألفاظ التي يفكر في معانيها حتى يرى أن يسمعها سماعه لها حين يخرجها من فيه وحين يجري بها اللسان. وهذا تجاهل لأن سبيل ذلك سبيل إنسان يتخيل دائماً في الشيء قد رآه وشاهده أنه كأنه يراه وينظر إليه. وأن مثاله نصب عينيه. فكما لا يوجب هذا أن يكون رائياً له وأن يكون الشيء موجوداً في نفسه كذلك لا يكون تخيله أنه كان ينطق بالألفاظ موجباً أن يكون ناطقاً بها. وأن تكون موجودة في نفسه حتى يجعل ذلك سبباً إلى جعل الفكر فيها. ثم إنا نعلم أنه ينطق بالألفاظ في نفسه وأنه يجدها فيها على الحقيقة. فمن أين لنا أنه إذا فكر كان الفكر منه فيها أم ماذا يروم ليت شعري بذلك الفكر ومعلوم أن الفكر من الإنسان يكون في أن يخبر عن شيء بشيء أو يصف شيئاً بشيء أو يضيف شيئاً إلى شيء أو يشرك شيئاً في حكم شيء أو يخرج شيئاً من حكم قد سبق منه لشيء أو يجعل وجود شيء شرطاً في وجود شيء وعلى هذا السبيل. وهذا كله فكر في أمور معلومة معقولة زائدة على واذا كان هذا كذلك لم يخل هذا الذي يجعل في الألفاظ فكراً من أحد أمرين: إما أن يخرج هذه المعاني من أن يكون لواضع الكلام فيها فكر ويجعل الفكر كله في الألفاظ. وإما أن يجعل له فكراً في اللفظ مفرداً عن الفكرة في هذه المعاني فإن ذهب إلى الأول لم يكلم وإن ذهب إلى الثاني لزمه أن يجوز وقوع فكر من الأعجمي الذي لا يعرف معاني ألفاظ العربية أصلاً في الألفاظ وذلك مما لا يخفى مكان الشنعة والفضيحة فيه. وشبيه بهذا التوهم منهم أنك قد ترى أحدهم يعتبر حال السامع فإذا رأى المعاني لا تترتب في نفسه إلا بترتب الألفاظ في سمعه ظن عند ذلك أن المعاني تبع للألفاظ وأن الترتب فيها مكتسب من الألفاظ ومن ترتبها في نطق المتكلم. وهذا ظن فاسد ممن يظنه فإن الاعتبار ينبغي أن يكون بحال الواضع للكلام والمؤلف له. والواجب أن ينظر إلى حال المعاني معه لا مع السامع. وإذا نظرنا علمنا ضرورة أنه محال أن يكون الترتب فيها تبعاً لترتب الألفاظ ومكتسباً عنه لأن ذلك يقتضي أن تكون الألفاظ سابقة للمعاني وأن تقع في نفس الإنسان أولاً ثم تقع المعاني من بعدها وتالية لها بالعكس مما يعلمه كل عاقل إذا هو لم يأخذ عن نفسه ولم يضرب حجاب بينه وبين عقله. وليت شعري هل كانت الألفاظ إلا من أجل المعاني وهل هي إلا خدم لها ومصرفة على حكمها أو ليست هي سمات لها وأوضاعاً قد وضعت لتدل عليها فكيف يتصور أن تسبق المعاني وأن تتقمها في تصور النفس إن جاز ذلك جاز أن تكون أسامي الاشياء قد وضعت قبل أن عرفت الأشياء وقبل أن كانت. وما أدري ما أقول في شيء يجر الذاهبين إليه إلى أشباه هذا من فنون المحال ورديء الأقوال! وهذا سؤال لهم من جنس آخر في النظم: قالوا: لو كان النظم يكون في معاني النحو لكان البدوي الذي لم يسمع بالنحو قط ولم يعرف المبتدأ والخبر وشيئاً مما يذكرونه لا يتأتى له نظم كلام. وإنا لنراه يأتي في كلامه بنظم لا يحسنه المتقدم في علم النحو. قيل: هذه شبهة من جنس ما عرض للذين عابوا المتكلمين فقالوا: إنا نعلم أن الصحابة رضي محله عنهم والعلماء في الصدر الأول لم يكونوا يعرفون الجوهر والعرض وصفة النفس وصفة المعنى وسائر العبارات التي وضعتموها. فإن كان لا تتم الدلالة على حدوث العالم والعلم بوحدانية الله إلا بمعرفة هذه الأشياء التي ابتدأتموها فينبغي لكم أن تدعوا أنكم قد علمتم في ذلك ما لم يعلموه وأن منزلتكم في العلم أعلى من منازلهم. وجوابنا هو مثل جواب المتكلمين وهو أن الاعتبار بمعرفة مدلول العبارات لا بمعرفة العبارات فإذا عرف البدوي الفرق بين أن يقول: جاءني زيد راكباً وبين قوله: جاءني زيد راكب لم يضره أن لا يعرف أنه إذا قال: راكباً كانت عبارة النحويين فيه أن يقولوا في راكب إنه حال. وإذا قال: الراكب إنه صفة جارية على زيد. وإذا عرف في قوله: زيد منطلق أن زيداً مخبر عنه ومنطلق خبر لم يضره أن لا يعلم أنا نسمي زيداً مبتدأ. وإذا عرف في قولنا: ضربته تأديباً له أن المعنى في التأديب أنه غرضه من الضرب وأن ضربه بتأدب لم يضره أن لا يعلم أنا نسمي التأديب مفعولاً له. ولو كان عدم العلم بهذه العبارات يمنعه العلم بما وضعناها له وأردناه بها لكان ينبغي أن لا يكون له سبيل إلى بيان أغراضه أن لا يفصل فيما يتكلم به بين نفي وإثبات وبينما ا إذا كان استفهاماً وبينه إذا كان معنى الذي وإذا كان بمعنى المجازاة لأنه لم يسمع عباراتنا في الفرق بين هذه المعاني. أترى الاعرابي حين سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمداً رسول الله بالنصب فأنكر وقال صنع ماذا أنكر عن غير علم أن النصب يخرجه عن أن يكون خبراً ويجعله والأول في حكم اسم واحد وأنه إذا صار والأول في حكم اسم واحد احتيج إلى اسم آخر أو فعل حتى يكون كلاماً وحتى يكون قد ذكر ما له فائدة. إن كان لم يعلم ذلك فلماذا قال: صنع ماذا. فطلب ما يجعله خبراً. ويكفيك أنه يلزم على ما قالوه أن يكون امرؤ القيس حين قال: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل قاله وهو لا يعلم ما نعنيه بقولنا: إن قفا أمر ونبك جواب الأمر و لاذكرى مضاف إلى حبيب و منزل معطوف على الحبيب. وأن تكون هذه الألفاظ قد رتبت له من غير قصد منه إلى هذه المعاني. وذلك يوجب أن يكون قال: نبك بالجزم من غير أن يكو عرف معنى يوجب الجزم وأتى به مؤخراً عن قفا من غير أن عرف لتأخيره موجباً سوى طلب الوزن. ومن أفضت به الحال إلى أمثال هذه الشناعات ثم لم يرتدع ولم يتبين أنه علم خطأ فليس إلا تركه والإعراض عنه. ولولا أنا نحب أن لا ينبس أحد في معنى السؤال والاعتراض بحرف إلا أريناه الذي استهواه لكان ترك التشاغل بإيراد هذا وشبهه أولى. ذاك لأنا قد علمنا علم ضرورة أنا لو بقينا الدهر الأطول نصعد ونصوب ونبحث وننقب نبتغي كلمة قد اتصلت بصاحبة لها ولفظة قد انتظمت مع أختها من غيرأن نتوخى فيما بينهما معنى من معاني النحو طلبنا ممتنعاً وثنينا مطايا الفكر ظلعاً. فإن كان هاهنا من يشك في ذلك ويزعم أنه قد علم لاتصال الكلم بعضها ببعض وانتظام الالفاظ بعضها مع بعض معاني غير معاني النحو فإنا نقول: هات فبين لنا تلك المعاني وأرنا مكانها واهدنا لها فلعلك قد أوتيت علماً قد حجب عنا وفتح لك باب قد أغلق دوننا من الوافر:
قد أردت أن أعيد القول في شيء هو أصل الفساد ومعظم الآفة والذي صار حجازاً بين القوم وبين التامل. وأخذ بهم عن طريق النظر وحال بينهم وبين أن يصغوا إلى ما يقال لهم وأن يفتحوا للذي تبين أعينهم وذلك قولهم: إن العقلاء قد اتفقوا على أنه يصح أن يعبر عن المعنى الواحد بلفظين ثم يكون أحدهما فصيحاً والآخر غير فصيح. وذلك قالوا يقتضي أن يكون للفظ نصيب في المزية لأنها لو كانت مقصورة على المعنى لكان محالاً أن يجعل لأحد اللفظين فضل على الآخر مع أن المعبر عنه واحد. وهذا شيء تراهم يعجبون به ويكثرون ترداده مع أنهم يؤكدونه فيقولون: لولا أن الأمر كذلك لكان ينبغي أن لا يكون للبيت من الشعر فضل على تفسير المفسر له لأنه إن كان اللفظ إنما يشرف من أجل معناه فإن لفظ المفسر يأتي على المعنى ويؤديه لا محالة. إذ لو كان لا يؤديه لكان لا يكون تفسيراً له. ثم يقولون: وإذا لزم ذلك في تفسير البيت من الشعر لزم مثله في الآية من القرآن. وهم إذا انتهوا في الحجاج إلى هذا الموضع ظنوا أنهم قد أتوا بما لا يجوز أن يسمع عليهم معه كلام وأنه نقض ليس بعده إبرام. وربما أخرجهم الإعجاب به إلى الضحك والتعجب ممن يرى أن إلى الكلام عليه سبيلاً وأن يستطيع أن يقيم على والجواب وبالله التوفيق أن يقال للمحتج بذلك: قولك: إنه يصح أن يعبر عن المعنى الواحد بلفظين يحتمل أمرين: أحدهما: أن تريد باللفظين كلمتين معناهما واحد في اللغة مثل: الليث والأسد ومثل: شحط وبعد وأشباه ذلك مما وضع اللفظان فيه لمعنى. والثاني: أن تريد كلامين. فإن أردت الأول خرجت من المسألة لأن كلامنا نحن في فصاحة تحدث من بعد التأليف دون الفصاحة التي توصف بها اللفظة مفردة ومن غير أن يعتبر حالها مع غيرها. وإن أردت الثاني ولا بد لك من أن تريده فإن هاهنا أصلاً من عرفه عرف سقوط هذا الاعتراض وهو أن يعلم أن سبيل المعاني سبيل أشكال الحلي كالخاتم والشنف والسوار. فكما أن من شأن هذه الأشكال أن يكون الواحد منها غفلاً ساذجاً لم يعمل صانعه فيه شيئاً أكثر من أن يأتي بما يقع عليه اسم الخاتم إن كان خاتماً والشنف إن كان شنفاً وأن يكون مصنوعاً بديعاً قد أغرب صانعه فيه. كذلك سبيل المعاني أن ترة الواحد منها غفلاً ساذجاً عامياً موجوداً في كلام الناس كلهم. ثم تراه نفسه وقد عمد إليه البصير بشأن البلاغة وإحداث الصور في المعاني فيصنع فيه ما يصنع الحاذق حتى يغرب في الصنعة ويدق في العمل ويبدع في الصياغة. وشواهد ذلك حاضرة لك كيف شئت وأمثلته نصب عينيك من أين نظرت تنظر إلى قول الناس: الطبع لا يتغير ولست تستطيع أن تخرج الإنسان عما جبل عليه فترى معنى غفلاً عامياً معروفاً في كل جيل وأمة ثم تنظر إليه في قول المتنبي من المتقارب: يراد من القلب نسيانكم وتأبى الطباع على الناقل فتجده قد خرج في أحسن صورة وتراه قد تحول جوهرة بعد أن كان خرزة وصار أعجب شي بم بعد أن لم يكن شيئاً. وإذ قد عرفت ذلك فإن العقلاء إلى هذا قصدوا حين قالوا: إنه يصح أن يعبر عن المعنى الواحد بلفظين ثم يكون أحدهما فصيحاً والآخر غير فصيح كأنهم قالوا: إنه يصب أن تكون هاهنا عبارتان أصل المعنى فيهما واحد ثم يكون لإحداهما في تحسين ذلك المعنى وتزيينه وإحداث خصوصية فيه تأثير لا يكون للأخرى. واعلم أن المخالف لا يخلو من أن ينكر أن يكون للمعنى في إحدى العبارتين ومزية لا يكونان له في الأخرى وأن تحدث فيه على الجملة صورة لم تكن أو يعرف ذلك فإن أنكر لم يكلم لأنه يؤديه إلى أن لا يجعل للمعنى في قوله: تأبى الطباع على الناقل مزية على الذي يعقل من قولهم: الطبع لا يتغير ولا يستطيع أن يخرج الإنسان عما ل عليه وأن وليس لله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد مزية على أن يقال: غير بديع في قدرة الله تعالى أن يجمع فضائل الخلق كلهم في رجل واحد. ومن أداه قول يقول إلى مثل هذا كان الكلام معه محالاً. وكنت إذا كلفته أن يعرف كمن يكلف أن يميز بحور الشعر بعضها من بعض فيعرف المديد من الطويل: والبسيط من السريع من ليس له ذوق يقيم به الشعر من أصله وإن اعترف بأن ذلك يكون قلناه: أخبرنا عنك أتقول في قوله: وتأبى الطباع على الناقل إنه كاية في الفصاحة. فإذا قال: نعم. قيل له: أو كان كذلك عندك من أجل حروفه من أجل حسن ومزية حصلاً في المعنى. فإن قال: من أجل حروفه دخل في الهذيان. وإن قال: من أجل حسن ومزية حصلاً في المعنى قيل له: فذاك ما أردناك عليه حين قلنا إن اللفظ يكون فصيحاً من أجل مزية تقع في معناه لا من أجل جرسه وصداه. واعلم أن ليس شيء أبين وأوضح وأحرى أن يكشف الشبهة عن متأمله في صحة ما من التشبيه فإنك تقول: زيد كالأسد أو شبيه بالأسد. فتجد ذلك كله تشبيها غفلاً ساذجاً. ثم تقول: كأن زيداً الأسد. فيكون تشبيهاً أيضاً. إلا أنك ترى بينه وبين الأول بوناً بعيداً لأنك ترى له صورة خاصة وتجدك قد فخمت المعنى وزدت فيه بأن أفدت أنه من الشجاعة وشدة البطش وأن قلبه قلب لا يخامره الذعر ولا يدخله الروع بحيث يتوهم الأسد بعينه. ثم تقول: لئن لقيته ليلقينك منه الأسد فتجده قد أفاد هذه المبالغة ولكن في صورة أحسن وصفة أخص وذلك أنك تجعله في كأن يتوهم أنه الأسد وتجعله هاهنا يرى منه الأسد على القطع فيخرج الأمر على حد التوهم إلى حد اليقين. ثم إن إلى قوله من الطويل: أأن أرعشت كفا أبيك وأصبحت يداك يدي ليث فإنك غاليه وجدته قد بدا لك في صورة آنق وأحسن. ثم إن نظرت إلى قول أرطاة بن سهبة من البسيط: إن تلقني لا ترى غيري بناظرة تنس السلاح وتعرف جبهة الأسد وجدته قد فضل الجميع ورأيته قد أخرج في صورة غير تلك الصور كلها. واعلم أن من الباطل والمحال ما يعلم الإنسان بطلانه واستحالته بالرجوع إلى النفس حتى لا يشك. ثم إنه إذا أراد بيان ما يجد في نفسه والدلالة عليه رأى المسلك إليه يغمض ويدق. وهذه الشبهة أعني قولهم: إنه لو كان يجوز أن يكون الأمر على خلاف ما قالوه من أن الفصاحة وصف للفظ من حيث هو لفط لكان ينبغي أن لا يكون للبيت من الشعر فضل على تفسير المفسر إلى آخره من ذاك. وقد علقت لذلك بالنفوس وقويت فيها حتى إنك لا تلقي إلى أحد من المتعلقين بأمر اللفظ كلمة مما نحن فيه إلا كان هذا أول كلامه وإلا عجب وقال: إن التفسير بيان للمفسر فلا يجوز أن يبقى من معنى المفسر شيء لا يؤديه التفسير ولا يأتي عليه لأن في تجويز ذلك القول بالمحال وهو أن لا يزال يبقى من معنى المفسر شيء لا يكون إلى العلم به سبيل. وإذا كان الأمر كذلك ثبت أن الصحيح من أنه لا يجوز أن يكون للفظ المفسر فضل من حيث المعنى على لفظ التفسير. وإذا لم يجز أن يكون الفضل من حيث المعنى لم يبق إلا أن يكون من حيث اللفظ نفسه. فهذا جملة ما يمكنهم أن يقولوه في نصرة هذه الشبهة قد استقصيته لك. وإذ قد عرفته فاسمع الجواب وإلى الله تعالى الرغبة في التوفيق للصواب: اعلم أن قولهم: إن التفسير يجب أن يكون كالمفسر دعوى لا تصح لهم إلا من بعد أن ينكروا الذي بيناه من أن من شأن المعاني أن تختلف بها الصور ويدفعوه أصلاً حتى يدعوا أنه لا فرق بين الكناية والتصريح. وأن حال المعنى مع الاستعارة كحاله مع ترك الاستعارة. وحتى يطلبوا ما أطبق عليه العقلاء من أن المجاز يكون أبداً أبلغ من الحقيقة فيزعموا أن قولنا: طويل النجاد وطويل القامة واحد وأن حال المعنى في بيت ابن هرمة من المنسرح: . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولا أبتاع إلا قريبة الأجل كحاله في قولك: أنا مضياف. وأنك إذا قلت: رأيت أسداً لم يكن الأمر أقوى من أن تقول: رأيت رجلاً هو من الشجاعة بحيث لا ينقص عن الأسد. ولم تكن قد زدت في المعنى بأن ادعيت له أنه أسد بالحقيقة ولا بالغت فيه. وحتى يزعموا أنه لا فضل ولا مزية لقوله: ألقيت حبله على غاربه. على قولك في تفسيره: خليته وما يريد وتركته يفعل ما يشاء. وحتى لا يجعلوا للمعنى في قوله تعالى: " وأن تكون صورة المعنى في قوله عز وجل: " وحتى لا يروا فرقاً بين قوله تعالى: " ويجعلوا حال المعنى في قول أبي نواس: وليس الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد كحاله في قولنا: إنه ليس ببديع في قدرة الله أن يجمع فضائل الخلق كلهم في واحد. ويرتكبوا ذلك في الكلام كله حتى يزعموا أنا إذا قلنا في قوله تعالى: " وحتى يكون حال الآية والتفسير حال اللفظتين إحداهما غريبة والأخرى مشهورة فتفسر الغريبة بالمشهورة مثل أن تقول مثلاً في الشرجب إنه الطويل: وفي القط إنه الكتاب وفي الدسر إنه المسامير. ومن صار الأمر به إلى هذا كان الكلام معه محالاً. واعلم أنه ليس عجيب أعجب من حال من يرى كلامين أجزاء أحدهما مخالفة معانيها لأجزاء الآخر. ثم يرى أنه يسع في العقل أن يكون معنى أحد الكلامين مثل معنى الآخر سواء حتى يتصدى فيقول: إنه لو كان يكون الكلام فصيحاً من أجل مزية تكون في معناه لكان ينبغي أن توجد تلك المزية في تفسيره. ومثله في العجب أنه ينظر إلى قوله تعالى: " ويرى أنه قد حذف من اللفظ بعض ما كان فيه وهو الواو في ربي و فيمن قولنا: في تجارتهم. ثم لا نعلم أن ذلك يقتضي أن يكون المعنى قد تغير كما تغير اللفظ. واعلم أنه ليس للحجج والدلائل في صحة ما نحن عليه حد ونهاية. وكلما انتهى منه باب انفتح فيه باب آخر. وقد أردت أن آخذ في نوع آخر من الحجاج ومن البسط والشر فتأمل ما أكتبه لك: اعلم أن الكلام الفصيح ينقسم قسمين: قسم تعزى المزية والحسن فيه إلى اللفظ وقسم يعزى ذلك فيه إلى النظم. فالقسم الأول: الكناية والاستعارة والتمثيل الكائن على الاستعارة وكل ما كان فيه على الجملة مجاز واتساع وعدول باللفظ عن الظاهر. فما من ضرب من هذه الضروب إلا وهو إذا وقع على الصواب وعلى ما ينبغي أوجب الفضل والمزية. فإذا قلت: هو كثير رماد القمر. كان له موقع وحظ من القبول لا يكون إذا قلت: هو كثير القرى والضيافة. وكذا إذا قلت: هو طويل النجاد كان له تأثير في النفس لا يكون إذا قلت: هو طويل القامة. وكذا إذا قلت: رأيت أسداً. كان له مزية لا تكون إذا قلت: رأيت رجلاً يشبه الأسد ويساويه في الشجاعة. وكذلك إذا قلت: أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى. كان له موقع لا يكون إذا قلت: أراك تتردد في الذي دعوتك إليه: كمن يقول: أخرج ولا أخرج فيقدم رجلاً ويؤخر أخرى. وكذلك إذا قلت: ألقى حبله على غاربه. كان له مأخذ من القلب لا يكون إذا قلت: هو كالبعير الذي يلقى حبله على غاربه حتى يرعى كيف يشاء ويذهب حيث يريد. لا يجهل المزية فيه إلا عديم الحس ميت النفس وإلا من لا يكلم لأنه من مبادي المعرفة التي من عدمها لم يكن للكلام معه معنى. وإذ قد عرفت هذه الجملة فينبغي أن تنظر إلى هذه المعاني واحداً واحداً وتعرف محصولها وحقائقها وأن تنظر أولاً إلى الكناية. وإذا نظرت إليها وجدت حقيقتها ومحصول أمرها أنها إثبات لمعنى أنت تعرف ذلك المعنى من طريق المعقول دون طريق اللفظ. إلا ترى أنك لما نظرت إلى قولهم: هو كثير رماد القدر وعرفت منه أنهم أرادوا أنه كثير القرى والضيافة لم تعرف ذلك من اللفظ ولكنك عرفته بأن رجعت إلى نفسك فقلت: إنه كلام قد جاء عنهم في المدح ولا معنى للمدح بكثرة الرماد. فليس إلا أنهم أرادوا أن يدلوا بكثرة الرماد على أنه تنصب له القدور الكثيرة ويطبخ فيها للقرى والضيافة وذلك لأنه إذا كثر الطبخ في القدور كثر إحراق الحطب تحتها. وإذا كثر إحراق الحطب كثر الرماد لا محالة. وهكذا السبيل في كل ما كان كناية فليس من لفظ الشعر عرفت أن ابن هرمة أراد بقوله: ولا أبتاع إلا قريبة الأجل التمدح بأنه مضياف: ولكنك عرفته بالنظر اللطيف وبأن علمت أنه لا معنى للتمدح بظاهر ما يدل عليه اللفظ من قرب أجل ما يشتريه فطلبت له تأويلاً. فعلمت أنه أراد أن يشتري ما يشتريه للأضياف. فإذا اشترى شاة أو بعيراً كان قد اشترى ما قد دنا أجله لأنه يذبح وينحر عن قريب. وإذ قد عرفت هذا في الكناية فالاستعارة في هذه القضية وذاك أن موضوعها على أنك تثبت بها معنى لا يعرف السامع ذلك المعنى من اللفظ. ولكنه يعرفه من معنى اللفظ. بيان هذا أنا نعلم أنك لا تقول: رأيت أسداً. إلا وغرضك أن تثبت للرجل أنه مساو للأسد في شجاعته وجرأته وشدة بطشه وإقدامه وفي أن الذعر لا يخامره والخوف لا يعرض له. ثم تعلم أن السامع إذا عقل هذا المعنى لم يعقله من لفظ أسد ولكنه يعقله من معناه وهو أنه يعلم أنه لا معنى لجعله أسداً مع العلم بأنه رجل إلا أنك أردت أنه بلغ من شدة مشابهته للأسد ومساواته إياه مبلغاً يتوهم معه أنه أسد بالحقيقة فاعرف هذه المجملة وأحسن تأملها. واعلم أنك ترى الناس وكأنهم يرون أنك إذا قلت: رأيت أسداً وأنت تريد التشبيه كنت نقلت لفظ أسد عما وضع له في اللغة واستعملته في معنى غير معناه حتى كأن له الاستعارة إلا أن تعمد إلى اسم الشيء فتجعله اسماً لشبيهه وحتى كأن لا فصل بين الاستعارة وبين تسمية المطر سماء والنبت غيثاً والمزادة راوية وأشباه ذلك مما يوقع اسم الشيء على ما هو منه بسبب. ويذهبون عما هو مركوز في الطباع من أن المعنى فيها المبالغة وأن يدعى في الرجل أنه ليس برجل ولكنه أسد بالحقيقة. وأنه إنما يعار اللفظ من بعد أن يعار المعنى وأنه لا يشرك في اسم الأسد إلا من بعد أن يدخل في جنس الأسد. لا ترى أحداً يعقل إلا وهو يعرف ذلك إذا رجع إلى نفسه أدنى رجوع. ومن أجل أن كان الأمر كذلك رأيت العقلاء كلهم يثبتون القول بأن من شأن الاستعارة أن تكون أبداً أبلغ من الحقيقة وإلا فإن كان ليس هاهنا إلا نقل اسم من شيء إلى شيء فمن: يجب ليت شعري أن تكون الاستعارة أبلغ من الحقيقة ويكون لقولنا: رأيت أسداً كل على قولنا: رأيت شبيها بالأسد وقد علمنا أنه محال أن يتغير الشيء في نفسه بأن ينقل اسم قد وضع لغيره من بعد أن لا يراد من معنى ذلك الاسم فيه شيء بوجه من الوجوه يجعل كأنه لم يوضع لذلك المعنى الأصلي أصلاً وفي أي عقل يتصور أن يتغير معنى شبيهاً بالأسد بأن يوضع لفظ أسد عليه وينقل إليه. واعلم أن العقلاء بنوا كلامهم إذ قاسوا وشبهوا على أن الأشياء تستحق الاسامي لخواص معان هي فيها دون ما عداها. فإذا أثبتوا خاصة شيء لشيء أثبتوا له اسمه. فإذا جعلوا الرجل بحيث لا تنقص شجاعته عن شجاعة الأسد ولا يعدم منها شيئاً قالوا: أسد. وإذا وصفوه بالتناهي في الخير والخصال الشريفة أو بالحسن الذي يبهر قالوا: ملك. وإذا وصفوا الشيء بغاية الطيب قالوا: هو مسك وكذلك الحكم أبداً. ثم إنهم استقصوا في ذلك نفوا عن المشبه اسم جنسه فقالوا: ليس هو بإنسان وإنما هو أس وليس هو أسد وليس هو آدمياً وإنما هو ملك. كما قال الله تعالى: " ثم إن لم يريدوا أن يخرجوه عن جنسه جملة قالوا: هو أسد في صورة إنسان وهو ملك في صورة آدمي. وقد خرج هذا للمتنبي في أحسن عبارة وذلك في قوله من الخفيف: ففي هذه الجملة بيان لمن عقل أن ليست الاستعارة نقل اسم عن شيء إلى شيء ولكنها ادعاء معنى الاسم لشيء. إذ لو كانت نقل اسم وكان قولنا: رأيت أسداً بمعنى رأيت شبيهاً بالأسد ولم يكن ادعاء أنه أسد بالحقيقه لكان محالاً أن يقال: ليس هو بإنسان ولكنه أسد أو هو أسد في صورة إنسان. كما أنه محال أن يقال: ليس هو بإنسان ولكنه شبيه أسد أو يقال: هو شبية بأسد في صورة إنسان. واعلم أنه قد كثر في كلام الناس استعمال لفظ النقل في الاستعارة. فمن ذلك قولهم: إن الاستعارة تعليق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة على سبيل النقل. قال القاضي أبو الحسن: الاستعارة ما اكتفي فيه بالاسم المستعار عن الاصلي ونقلص لعبارة فجعلت في مكان غيرها. ومن شأن ما غمض من المعاني ولطف أن يصعب تصويره على الوجه الذي هو عليه لعامة الناس فيقع لذلك في العبارات التي يعبر بها عنه ما يوهم الخطأ. وإطلاقهم في الاستعارة أنها نقل للعبارة عما وضعت له من ذلك فلا يصح الأخذ به. وذلك أنك إذا كنت لا تطلق اسم الأسد على الرجل إلا من بعد أن تدخله في جنس الأسود من الجهة التي بينا لم تكن نقلت الاسم عما وضع له بالحقيقة لأنك إنما تكون ناقلاً إذا أنت أخرجت معناه الأصلي من أن يكون مقصودك ونفضت به يدك. فأما أن تكون ناقلاً له عن معناه مع إرادة معناه فمحال واعلم أن في الاستعارة ما لا يتصور تقدير النقل فيه البتة وذلك مثل قول لبيد من الكامل: وغداة ريح قد كشفت وقرة إذ أصبحت بيد الشمال زمامها لا خلاف في أن اليد استعارة. ثم إنك لا تستطيع أن تزعم أن لفظ اليد قد نقل عن شيء إلى شيء. وذلك أنه ليس المعنى على أنه شبه شيئاً باليد فيمكنك أن تزعم أنه نقل لفظ اليد إليه وإنما المعنى على أنه أراد أن يثبت للشمال في تصريفها الغداة على طبيعتها شبه الإنسان قد أخذ الشيء بيده يقلبه ويصرفه كيف يريد. فلما أثبت لها مثل فعل الإنسان باليد استعار لها اليد. وكما لا يمكنك تقدير النقل في لفظ اليد كذلك لا يمكنك أن تجعل الاستعارة فيه من صفة اللفظ. إلا ترى أنه محال أن تقول إنه استعار لفظ اليد للشمال وكذلك سبيل نظائره مما تجدهم قد أثبتوا فيه للشيء عضوا من أعضاء الانسان من أجل إثباتهم له المعنى الذي يكون في ذلك العضو من الإنسان كبيت الحماسة من الطويل: إذا هزه في عظم قرن تهللت نواجذ أفواه المنايا الضواحك فإنه لما جعل المنايا تضحك جعل لها الأفواه والنواجذ التى يكون الضحك فيها وكبيت المتنبي من الطويل: خميس بشرق الأرض والغرب زحفه وفي أذن الجوزاء منه زمازم لما جعل الجوزاء تسمع على عاداتهم في جعل تعقل ووصفهم لها لما يوصف بها الأناسي أثبت لها الأذن التي بها يكون السمع من الأناسي. فأنت الآن لا تستطيع أن تزعم في بيت الحماسة أنه استعار لفظ النواجذ ولفظ الأفواه لأن ذلك يوجب المحال. وهو أن يكون في المنايا شيء قد شبهه بالنواجذ وشيء قد شبهه بالأفواه. فليس إلا أن تقول: إنه لما ادعى أن المنايا تسر وتستبشر إذا هو هز السيف وجعلها لسرورها بذلك تضحك أراد أن يبالغ في الأمر فجعلها في صورة من يضحك حتى تبدو نواجذه من شدة السرور. وكذلك لا تستطيع أن تزعم أن المتنبي قد استعار لفظ الأذن لأنه يوجب أن يكون في الجوزاء شيء قد أراد تشبيهه بالأذن وذلك من شنيع المحال. فقد تبين من غير وجه أن الاستعاره إنما هي ادعاء معنى الاسم للشيء لا نقل الاسم عن الشيء. وإذا ثبت أنها ادعاء معنى الاسم للشيء علمت أن الذي قالوه من أنها تعليق للعبارة على غير ما وضعت في اللغة ونقل لها عما وضعت له كلام قد تسامحوا فيه لأنه إذا كانت الاستعارة ادعاء معنى الاسم لم يكن الاسم مزالاً عما وضع له بل مقراً عليه. واعلم أنك تراهم لا يمانعون إذا تكلموا في الاستعارة من أن يقولوا: إنه أراد المبالغة فجعله أسداً بل هم يلجؤون إلى القول به. وذلك صريح في أن الأصل فيها المعنى وأنه المستعار في الحقيقة وأن قولنا: استعير له اسم الأسد إشارة إلى أنه استعير له معناه وأنه جعل إياه وذلك أنا لو لم نقل ذلك لم يكن لجعل هاهنا معنى لأن جعل لا يصلح إلا حيث يراد إثبات صفة للشيء كقولنا: جعلته أميراً وجعلته لصاً. تريد أنك أثبت له الإمارة ونسبته إلى اللصوصية وادعيتها عليه ورميته بها. وحكم جعل إذا تعدى إلى مفعولين حكم صير فكما لا تقول: صيرته أميراً إلا على معنى أنك أثبت له صفة الإمارة كذلك لا يصح أن تقول: جملته أسداً إلا على معنى أنك أثبت له معاني الأسد. وأما ما تجده في بعض كلامهم من أن جعل يكون بمعنى سمى فمما تسامحوا فيه أيضاً لأن المعنى معلوم وهو مثل أن تجد الرجل يقول: أنا لا أسميه إنساناً. وغرضه أن يقول: إني لا أثبت له المعاني التي بها كان الإنسان إنساناً. فأما أن يكون جعل في معنى سمى هكذا غفلاً فمما لا يخفى فساده. إلا ترى أنك لا تجد عاقلاً يقول: جعلته زيداً بمعنى سميته زيداً ولا يقال للرجل: أجعل ابنك زيداً بمعنى سميته زيداً و: ولد لفلان ابن فجعله عبد الله أي سماه عبد الله. هذا ما لا يشك فيه ذو عقل إذا نظر. وأكثر ما يكون منهم هذا التسامح أعني قولهم: إن جعل يكون بمعنى سمى في قوله تعالى: " فقد ترى في التفسير أن جعل يكون بمعنى سمى. وعلى ذاك فلا شبهة في أن ليس المعنى على مجرد التسمية ولكن على الحقيقة التي وصفتها لك. وذاك أنهم أثبتوا للملائكة صفة الإناث واعتقدوا وجودها فيهم. وعن هذا الاعتقاد صدر عنهم ما صدر من الاسم أعني إطلاق اسم البنات. وليس المعنى أنهم وضعوا لها لفظ الإناث ولفظ البنات من غير اعتقاد معنى وإثبات صفة. هذا محال. أولا ترى إلى قوله تعالى: " هذا ولو كانوا لم يقصدوا إثبات صفة ولم يكن غير أن وضعوا اسماً لا يريدون به معنى لما استحقوا إلا اليسير من الذم. ولما كان هذا القول منهم كفراً. والتفسير الصحيح والعبارة المستقيمة ما قاله أبو إسحاق الزجاج رحمه الله فإنه قال: إن الجعل هاهنا في معنى القول والحكم على الشيء تقول قد جعلت زيداً أعلم الناس أي وصفته بذلك وحكمت به. ونرجع إلى الغرض فنقول: فإذا ثبت أن ليست الاستعارة نقل الاسم ولكن ادعاء معنى الاسم. وكنا إذا عقلنا من قول الرجل: رأيت أسداً أنه أراد به المبالغة في وصف بالشجاعة وأن يقول: إنه من قوة القلب ومن فرط البسالة وشدة البطش. وفي أن الخوف لا يخامره والذعر لا يعرض له بحيث لا ينقص عن الأسد لم نعقل ذلك من لفظ أسد ولكن من ادعائه معنى الأسد الذي رآه ثبت بذلك أن الاستعارة كالكناية في أنك تعرف المعنى فيها من طريق المعقول دون طريق وإذ قد عرفت أن طريق العلم بالمعنى في الاستعارة والكناية معاً المعقول فاعلم حكم التمثيل في ذلك حكمها بل الأمر في التمثيل أظهر وذلك أنه ليس من عاقل يشك إذا نظر في كتاب يزيد بن الوليد إلى مروان بن محمد حين بلغه أنه يتلكأ في بيعته: " أما بعد فإني أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى. فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيتهما شئث والسلام. يعلم أن المعنى أنه يقول له: بلغني أنك في أمر البيعة بين رأيين مختلفين نرى تارة أن تبايع وأخرى أن تمتنع من البيعة. فإذا أتاك كتابي هذا فاعمل على أي الرأيين شئت وأنه لم يعرف ذلك من لفظ التقديم والتأخير أو من لفظ الرجل ولكن بأن علم أنه معنى لتقديم الرجل وتأخيرها في رجل يدعى إلى البيعة. وأن المعنى على أنه أراد أن يقول: إن مثلك في ترددك بين أن تبايع وبين أن تمتنع مثل رجل قائم في ليذهب في أمر فجعلت نفسه تريه تارة أن الصواب في أن يذهب فجعل يقدم رجلاً تارة ويؤخر أخرى. وهكذا كل كلام كان ضرب مثل لا يخفى على من له أدنى تمييز أن الأغراض التي كون للناس في ذلك لا تعرف من الألفاظ ولكن تكون المعاني الحاصلة من مجموع الكلام أدلة على الأغراض والمقاصد. ولو كان الذي يكون غرض المتكلم يعلم من النفظ ما كان لقولهم: ضرب كذا مثلاً لكذا معنى. فما اللفظ يضر بمثلاً ولكن المعنى. فإذا قلنا في قول النبي عليه الصلاة والسلام: " إياكم وخضراء الدمن " إنه ضرب عليه السلام خضراء الدمن مثلاً للمرأة الحسناء في منبت السوء. لم يكن المعنى أنه صلى الله عليه وسلم ضرب لفظ خضراء الذمن مثلاً لها. هذا ما لا يظنه من به مس فضلاً عن العاقل. فقد زال الشك وارتفع في أن طريق لعلم بما يراد إثباته والخبر به في هذه الأجناس الثلاثة التي هي الكناية والاستعارة والتمثيل لمعقول دون اللفظ من حيث يكون القصد بالإثبات فيها إلى معنى ليس هو معنى اللفظ ولكنه معنى يستدل بمعنى اللفظ عليه ويستنبط منه كنحو ما ترى من أن القصد في قولهم: لو كثير رماد القدر إلى كثرة القرى. وأنت لا تعرف ذلك من هذا اللفظ الذي تسمعه ولكنك تعرفه بأن تستدل عليه بمعناه على ما مضى الشرح فيه. وإذ قد عرفت ذلك فينبغي أن يقال لهؤلاء الذين اعترضوا علينا في قولنا إن الفصاحة وصف تجب للكلام من أجل مزية تكون في معناه وأنها لا تكون وصفاً له من حيث اللفظ مجرداً عن المعنى واحتجوا بأن قالوا: إنه لو كان الكلام إذا وصف بأنه فصيح كان ذلك من أجل مزية تكون في معناه لوجب أن يكون تفسيره فصيحاً مثله: أخبرونا عنكم أترون أن من شأن هذه الأجناس إذا كانت في الكلام أن تكون له بها مزية توجب له الفصاحة أم لا ترون لك. فإن قالوا: لا نرى ذلك. لم يكلموا. وإن قالوا: نرى للكلام إذا كانت فيه مزية توجب الفصاحة قيل لهم: فأخبرونا عن تلك المزية أتكون في اللفظ أم في المعنى فإن قالوا: في اللفظ. دخلوا في الجهالة من حيث يلزم من ذلك أن تكون الكناية والاستعارة والتمثيل أوصافاً للفظ لأنه لا يتصور أن تكون مزيتها في اللفظ حتى تكون أوصافاً له. وذلك محال من حيث يعلم كل عاقل أنه لا يكنى باللفظ عن اللفظ وأنه إنما يكنى بالمعنى عن المعنى. وكذلك يعلم أنه لا يستعار اللفظ مجرداً عن المعنى ولكن يستعار المعنى ثم اللفظ يكون تبع المعنى على ما قدمنا الشرح فيه. ويعلم كذلك أنه محال أن يضرب المثل باللفظ وأن يكون قد ضرب لفظ أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى مثلاً لتردده في أمر البيعة. وإن قالوا: هي في المعنى قيل لهم: فهو ما أردناكم عليه فدعوا الشك عنكم وانتبهوا من رقدتكم فإنه علم ضروري قد أدى التقسيم إليه وكل علم كان كذلك فإنه يجب القطع على كل سؤال يسأل فيه بأنه خطأ وأن السائل ملبوس عليه. ثم إن الذي يعرف به وجه دخول الغلط عليهم في قولهم: إنه لو كان الكلام يكون فصيحاً من أجل مزية تكون في معناه لوجب أن يكون تفسيره فصيحاً مثله: هو أنك إذا نظرت إلى كلامهم هذا وجدتهم كأنهم قالوا إنه لو كان الكلام إذا كان فيه كناية أو استعارة أو تمثيل كان لذلك فصيحاً لوجب أن يكون إذا لم توجد فيه هذه المعاني فصيحاً أيضاً ذاك لأن تفسير الكناية أن نتركها ونصرح بالمكنى عنه فنقول: إن المعنى في قولهم: هو كثير رماد القدر أنه كثير القرى. وكذلك الحكم في الاستعارة فإن تفسيرها أن نتركها ونصرح بالتشبيه فنقول في رأيت أسداً إن المعنى رأيت رجلاً يساوي الأسد في الشجاعة. وكذلك الأمر في التمثيل لأن تفسيره أن نذكر المتمثل. له فنقول في قوله: أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى: إن المعنى أنه قال: أراك تتردد في أمر البيعة فتقول تارة: أفعل وتارة لا أفعل كمن يريد الذهاب في وجه فتريه نفسه تارة أن الصواب في أن يذهب وأخرى أنه في أن لا يذهب فيقدم رجلاً ويؤخر أخرى. وهذا خروج عن المعقول لأنه بمنزلة أن تقول لرجل قد نصب لوصف علة: إن كان هذا الوصف يجب لهذه العلة فينبغي أن يجب مع عدمها. ثم إن الذي استهواهم هو أنهم نظروا إلى تفسير ألفاظ اللغة بعضها ببعض. فلما رأوا اللفظ إذا فسر بلفظ مثل أن يقال في الشرجب: إنه الطويل لم يجز أن يكون في المفسر من حيث المعنى مزية لا تكون في التفسير. ظنوا أن سبيل ما نحن فيه ذلك السبيل وذلك غلط منهم. لأنهم إنما كان للمفسر فيما نحن فيه الفضل والمزيه على التفسير من حيث كانت الدلالة في المفسر دلالة معنى وفي التفسير دلالة لفظ على معنى وكان من المركوز في الطباع والراسخ في غرائز العقول أنه متى أريد الدلالة على معنى فترك أن يصرح به ويذكر باللفظ الذي هو له في اللغة وعمد إلى معنى آخر فأشير به إليه وجعل دليلاً عليه كان للكلام بذلك حسن ومزية لا يكونان إذا لم يصنع ذلك وذكر بلفظه صريحاً. ولا يكون هذا الذي ذكرت أنه سبب فضل المفسر على التفسير من كون الدلالة في المفسر دلالة معنى على معنى وفي التفسير معنى معلوم يعرفه السامع وهو غير معنى لفظ التفسير في نفسه وحقيقته كما ترى من أن الذي هو معنى اللفظ في قولهم: هو كثير رماد القدر. غير الذي هو معنى اللفظ في قولهم: هو كثير القرى ولو لم يكن كذلك لم يتصور أن يكون هاهنا دلالة معنى على معنى. وإذ قد عرفت هذه الجملة فقد حصل لنا منها أن المفسر يكون له دلالتان: دلالة اللفظ على المعنى ودلالة المعنى الذي دل اللفظ عليه على معنى لفظ آخر. ولا يكون للتفسير إلا دلالة واحدة وهي دلالة اللفظ. وهذا الفرق هو سبب أن كان للمفسر الفضل والمزية على التفسير. ومحال أن يكون هذا قضية المفسر في ألفاظ اللغة. ذاك لأن معنى المفسر يكون مجهولاً عند السامع ومحال أن يكون للمجهول دلالة. ثم إن معنى المفسر يكون هو معنى التفسير بعينه ومحال إذا كان المعنى واحداً أن يكون للمفسر فضل على التفسير لأن الفضل كان في مسألتنا بأن دل لفظ المفسر على معنى ثم دل معناه على معنى آخر. وذلك لا يكون مع كون المعنى واحداً ولا يتصور. بيان هذا أنه محال أن يقال إن معنى الشرجب الذي هو المفسر يكون دليلاً على معنى تفسيره الذي هو الطويل على وزان قولنا: إن معنى كثيررماد القدر يدل على معنى تفسيره الذي هو كثير القرى لأمرين: أحدهما: أنك لا تفسر الشرجب حتى يكون معناة مجهولاً عند السامع ومحال أن يكون للمجهول دلالة. والثاني: أن المعنى في تفسيرنا الشرجب بالطويل أن نعلم السامع أن معناه هو معنى الطويل بعينه. وإذا كان كذلك كان محالاً أن يقال: إن معناه يدل على معنى الطويل: والذي يعقل أن يقال إن معناه هو معنى الطويل. فاعرف ذلك وانظر إلى لعب الغفلة بالقوم. وإلى ما رأوا في منامهم من الأحلام الكاذبة. ولو أنهم تركوا الاستنامةإلى التقليد والأخذ بالهوينا وترك النظر. وأشعروا قلوبهم أن هاهنا كلاماً ينبغي أن يصغى إليه. لعلموا ولعاد إعجابهم بأنفسهم في سؤالهم هذا وفي سائر أقوالهم عجباً منها ومن تطويح الظنون بها وإذ قد بان سقوط ما اعترض به القوم وفحش غلطهم. فينبغي أن تعلم أن ليست المزايا التي تجدها لهذه الأجناس على الكلام المتروك على ظاهره والمبالغة التي تحسها في أنفس المعاني التي يقصد المتكلم بخبره إليها ولكنها في طريق إثباته لها وتقريره إياها وأنك إذا سمعتهم يقولون: إن من شأن هذه الأجناس أن تكسب المعاني مزية وفضلاً وتوجب لها شرفاً ونبلاً وأن تفخمها في نفوس السامعين لا يعنون أنفس المعاني التي يقصد المتكلم بخبره إليها كالقرى والشجاعة والتردد في الرأي وإنما يعنون إثباتها لما تثبت له ويخبر بها عنه. فإذا جعلوا للكناية مزية على التصريح لم يجعلوا تلك المزية في المعنى المكنى عنه ولكن في إثباته للذي ثبت له. وذلك أنا نعلم أن المعاني التي يقصد الخبر بها لا تتغير في أنفسها بأن يكنى عنها بمعان سواها ويترك أن تذكر الألفاظ التي لها في اللغة. ومن هذا الذي يشك أن معنى طول القامة وكثرة القرى لا يتغيران بأن يكنى عنهما بطول النجاد وكثرة رماد القدر وتقدير التغيير فيهما يؤدي إلى أن لا تكون الكناية عنهما ولكن عن غيرهما. وقد ذكرت هذا في صدر الكتاب وذكرت أن السبب في أن يكون للإثبات إذا كان من طريق الكناية مزية لا تكون إذا كان من طريق التصريح أنك كنيت عن كثرة القرى بكثرة رماد القدر كنت قد أثبت كثرة القرى بإثبات شاهدها ودليلها هو علم على وجودها. وذلك لا محالة يكون أبلغ من إثباتها بنفسها وذلك لأنه يكون سبيلها حينئذ سبيل الدعوى تكون مع شاهد. وذكرت أن السبب في أن كانت الاستعارة أبلغ من الحقيقة أنك إذا ادعيت للرجل أنه أسد بالحقيقة كان ذلك أبلغ وأشد في تسويته بالأسد في الشجاعة. وذاك لأنه أن يكون من الأسود ثم لا تكون له شجاعة الأسود. وكذلك الحكم في التمثيل فإذا قلت: أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى كان أبلغ في إثبات التردد له من أن تقول: أنت كمن يقدم رجلا ويؤخر أخرى. واعلم أنه قد يهجس في نفس الإنسان شيء يظن من أجله أنه ينبغي أن يكون الحكم في المزية التي تحدث بالاستعارة أنها تحدث في المثبت دون الإثبات وذلك أن تقول: إنا إذا نظرنا إلى الاستعارة وجدناها إنما كانت أبلغ من أجل أنها تدل على قوة الشبه وأنه قد تناهى إلى أن صار المشبه به لا يتميز عن المشبه به في المعنى الذي من أجله شبه به. وإذا كان كذلك كانت المزية الحادثة بها حادثة في الشبه وإذا كانت حادثة في الشبه كانت في المثبت دون الإثبات. والجواب عن ذلك أن يقال إن الاستعارة لعمري تقتضي قوة الشبه وكونه بحيث لا يتميز المشبه عن المشبه به ولكن ليس ذاك سبب المزية وذلك لأنه لو كان ذاك سبب المزية لكان ينبغي إذا جئت به صريحاً فقلت: رأيت رجلاً مساوياً للأسد في الشجاعة وبحيث لولا صورته لظننت أنك رأيت أسداً. وما شاكل ذلك من ضروب المبالغة أن تجد لكلامك المزية التي تجدها لقولك أسداً. وليس يخفى على عاقل أن ذلك لا يكون. فإن قال قائل: إن المزية من أجل أن المساواة تعلم في رأيت أسداً من طريق المعنى وفي رأيت رجلاً مساوياً للأسد من طريق اللفظ قيل قد قلنا فيما تقدم إنه محال أن يتغير حال المعنى في نفسه بأن يكنى عنه بمعنى آخر وأنه لا يتصور أن يتغير معنى طول القامة بأن يكنى عنه بطول النجاد ومعنى كثرة القرى بأن يكنى عنه بكثرة الرماد. وكما أن ذلك لا يتصور فكذلك لا يتصور أن يتغير معنى مساواة الرجل الأسد في الشجاعة بأن يكنى عن ذلك ويدل عليه بأن تجعله أسداً. فأنت الآن إذا نظرت إلى قوله من البسيط: فأسبلت لؤلؤاً من نرجس وسقت ورداً وعضت على العناب بالبرد فرأيته قد أفادك أن الدمع كان لا يحرم من شبه اللؤلؤ والعين من شبه النرجس شيئاً فلا تحسبن أن الحسن الذي تراه والأريحية التي تجدها عنده أنه أفادك ذلك فحسب. وذاك أنك تستطيع أن تجيء به صريحاً فتقول: فأسبلت دمعاً كأنه اللؤلؤ بعينه من عين كأنها النرجس حقيقة. ثم لا ترى من ذلك الحسن شيئاً. ولكن اعلم أن سبب أن راقك وأدخل الأريحية عليك أنه أفادك في إثبات شدة الشبه مزية وأوجدك فيه خاصة قد غرز في طبع الإنسان أن يرتاح لها ويجد في نفسه هزة عندها. وهكذا حكم نظائره كقول أبي نواس من السريع: # يبكي فيذري الدر عن نرجس ويلطم الورد بعناب وقول المتنبي من الوافر: بدت قمراً ومالت خوط بان وفاحت عنبراً ورنت غزالا واعلم أن من شأن الاستعارة أنك كلما زدت إرادتك التشبيه إخفاء ازدادت الاستعارة حسناً. حتى إنك تراها أغرب ما تكون إذا كان الكلام قد ألف تأليفاً إن أردت أن تفصح في بالتشبيه خرجت إلى شيء تعافه النفس ويلفظه السمع. ومثال ذلك قول ابن المعتز من مجزوء الرمل: أثمرت أغصان راحته بجنان الحسن عنابا ألا ترى أنك لو حملت نفسك على أن تظهر التشبيه وتفصح به احتجت إلى أن تقول: أثمرت أصابع يده التي هي كالأغصان لطالبي الحسن شبيه العناب من أطرافها المخضوبة. وهذا ما لا تخفى غثاثته. ومن أجل ذلك كان موقع العناب في هذا البيت أحسن منه في قوله: وعضت على العناب بالبرد وذاك لأن إظهار التشبيه فيه لا يقبح هذا القبح المفرط لأنك لو قلت: وعضت على أطراف أصابع كالعناب بثغر كالبرد كان شيئاً يتكلم بمثله وإن كان مرذولاً. وهذا موضع لا يتبين سره إلا من كان ملتهب الطبع حاد القريحة. وفي الاستعارة علم كثير ولطائف معان ودقائق فروق. وسنقول فيها إن شاء الله في موضع آخر. واعلم أنا أخذنا في الجواب عن قولهم: إنه لو كان الكلام يكون فصيحاً من أجل مزية تكون في معناه لكان ينبغي أن يكون تفسيره فصيحاً مثله: قلنا إن الكلام الفصيح ينقسم قسمين: قسم تعزى المزية فيه إلى اللفظ. وقسم تعزى فيه إلى النظم. وقد ذكرنا في القسم الأول من الحجج ما لا يبقى معه لعاقل إذا هو تأملها شك في بطلان ما تعلقوا به أنه يلزمنا في قولنا: إن الكلام يكون فصيحاً من أجل مزية تكون في معناه أن يكون تفسير الكلام الفصيح فصيحاً مثله. وأنه تهوس منهم وتقحم في المحالات. وأما القسم الذي تعزى فيه المزية إلى النظم فإنهم إن ظنوا أن سؤالهم الذي اغتروا به يتجه لهم فيه كان أمرهم أعجب وكان جهلهم في ذلك أغرب وذلك أن النظم كما بيناه هو توخي معاني النحو وأحكامه وفروقه ووجوهه والعمل بقوانينه وأصوله وليست معاني النحو معاني الألفاظ فيتصور أن يكون لها تفسير. وجملة الأمر أن النظم إنما هو أن الحمد من قوله تعالى: " وإياك: ضمير اسم الله تعالى مما هو ضمير يقع موقع الاسم إذا كان الاسم منصوباً. معنى ذلك أنك لو ذكرت اسم الله مكانه لقلت: الله نعبد ثم أن نعبد هو المقتضي معنى النصب فيه. وكذلك حكم إياك نستعين. ثم إن جملة إياك نستعين معطوف بالواو على جملة إياك نعبد. والصراط مفعول والمستقيم صفة للصراط وصراط الذين بدل من الصراط المستقيم وأنعمت عليهم صلة الذين وغير المغضوب عليهم صفة الذين والضالين معطوف على المغضوب عليهم. فانظر الآن: هل يتصور في شيء من هذه المعاني أن يكون معنى اللفظ وهل يكون كون الحمد مبتدأ معنى لفظ الحمد أم يكون كون رب صفة وكونه مضافاً إلى العالمين معنى لفظ الرب فإن قيل: إنه إن لم تكن هذه المعاني أنفس الألفاظ فإنها تعلم على كل حال من ترتيب الألفاظ ومن الإعراب فبالرفع في الدال من الحمد يعلم أنه مبتدأ وبالجر في الباء من رب يعلم أنه صفة وبالياء في العالمين يعلم أنه مضاف إليه. وعلى هذا قياس الكل. قيل: ترتيب اللفظ لا يكون لفظاً والإعراب وإن كان يكون لفظاً فإنه لا يتصور أن يكون هاهنا لفظان كلاهما علامة إعراب ثم يكون أحدهما تفسيراً للآخر. وزيادة القول في هذا من خطل الرأي فإنه مما يعلمه العاقل ببديهة النظر. ومن لم يتنبه له في أول ما يسمع لم يكن أهلاً لأن يكلم. ونعود إلى رأس الحديث فنقول: قد بطل الآن من كل وجه وكل طريق أن تكون الفصاحة وصفاً للفظ من حيث هو لفظ ونطق لسان. وإذا كان هذا صورة الحال وجملة الأمر ثم لم تر القوم تفكروا في شيء مما شرحناه بحال ولا أخطروه لهم ببال بان وظهر أنهم لم يأتوا الأمر من بابه ولم يطلبوه من معدنه ولم يسلكوا إليه طريقه. وأنهم لم يزيدوا على أن أوهموا أنفسهم وهماً كاذباً أنهم قد أبانوا الوجه الذي به كان القرآن معجزاً والوصف الذي به بان من كلام المخلوقين من غير أن يكونوا قد قالوا فيه قولاً يشفي من شاك غليلاً ويكون على علم دليلاً وإلى معرفة ما قصدوا إليه سبيلاً. واعلم أنه إذا نظر العاقل إلى هذه الأدلة فرأى ظهورها استبعد أن يكون قد ظن ظان في الفصاحة أنها من صفة اللفظ صريحاً. ولعمري إنه كذلك ينبغي إلا أنا ننظر إلى جدهم وتشددهم وبتهم الحكم بأن المعاني لا تتزايد وإنما تتزايد الألفاظ. فلئن كانوا قد قالوا الألفاظ وهم لا يريدونها أنفسها وإنما يريدون لطائف معان تفهم منها لقد كان ينبغي أن يتبعوا ذلك من قولهم ما ينبىء عن غرضهم وأن يذكروا أنهم عنوا بالألفاظ ضرباً من المعنى وأن غرضهم مفهوم خاص. هذا وأمر النظم في أنه ليس شيئاً غير توخي معاني النحو فيما بين الكلم وأنك ترتب المعاني أولاً في نفسك ثم تحذو على ترتيبها الألفاظ في نطقك. وإنا لو فرضنا أن تخلو الألفاظ من المعاني لم يتصور أن يجب فيها نظم وترتيب في غاية القوة والظهور. ثم ترى الذين لهجوا بأمر اللفظ قد أبوا إلا أن يجعلوا النظم في الألفاظ. فترى الرجل منهم يرى ويعلم أن الإنسان لا يستطيع أن يجيء بالألفاظ مرتبة إلا من بعد أن يفكر في المعاني ويرتبها في نفسه على ما أعلمناك ثم تفتشه فتراه لا يعرف الأمر بحقيقته وتراه ينظر إلى حال السامع. فإذا رأى المعاني لا تقع مرتبة في نفسه إلا من بعد أن تقع الألفاظ مرتبة في سمعه نسي حال نفسه واعتبر حال من يسمع منه. وسبب ذلك قصر الهمة وضعف العناية وترك النظر والأنس بالتقليد. وما يغني وضوح الدلالة مع من لا ينظر فيها. وإن الصبح ليملأ الأفق ثم لا يراه النائم ومن قد أطبق جفنه واعلم أنك لا ترى في الدنيا علماً قد جرى الأمر فيه بديئاً وأخيراً على ما جرى عليه في علم الفصاحة والبيان. أما البديء فهو أنك لا ترى نوعاً من أنواع العلوم إلا وإذا تأملت كلام الأولين الذين علموا الناس وجدت العبارة فيه أكثر من الإشارة والتصريح أغلب من التلويح. والأمر في علم الفصاحة بالضد من هذا فإنك إذا قرأت ما قاله العلماء فيه وجدت جله أو كله رمزاً ووحياً وكناية وتعريضاً وإيماء إلى الغرض من وجه لا يفطن له إلا من غلغل الفكر وأدق النظر. ومن يرجع من طبعه إلى ألمعية يقوى معها على الغامض ويصل بها إلى الخفي حتى كان بسلاً حراماً أن تتجلى معانيهم سافرة الأوجه لا نقاب لها وبادية الصفحة لا حجاب دونها. وحتى كأن الإفصاح بها حرام وذكرها إلا على سبيل الكناية والتعريض غير سائغ. وأما الأخير فهو أنا لم نر العقلاء قد رضوا من أنفسهم في شيء من العلوم أن يحفظ كلاماً للأولين ويتدارسوه ويكلم به بعضهم بعضاً من غير أن يعرفوا له معنى ويقفوا منه على غرض صحيح ويكون عندهم إن يسألوا عنه بيان له وتفسير إلا علم الفصاحة فإنك ترى طبقات من الناس يتداولون فيما بينهم ألفاظاً للقدماء وعبارات من غير أن يعرفوا لها معنى أصلاً أو يستطيعوا إن سئلوا عنها أن يذكروا لها تفسيراً يصح. فمن أقرب ذلك أنك تراهم يقولون إذا هم تكلموا في مزية كلام على كلام: إن ذلك يكون بجزالة اللفظ. وإذا تكلموا في زيادة نظم على نظم: إن ذلك يكون لوقوعه على طريقة مخصوصة وعلى وجه دون وجه. ثم لا تجدهم يفسرون الجزالة بشيء ويقولون في المراد بالطريقة والوجه ما يحلى منه السامع بطائل. ويقرؤون في كتب البلغاء ضروب كلام قد وصفوا اللفظ فيها بأوصاف تعلم ضرورة أنها لا ترجع إليه من حيث هو لفظ ونطق لسان وصدى حرف كقولهم: لفظ متمكن غير قلق ولا ناب به موضعه. وإنه جيد السبك صحيح الطابع. وإنه ليس فيه فضل عن معناه. وكقولهم: إن من حق اللفظ أن يكون طبقاً للمعنى لا يزيد عليه ولا ينقص عنه كقول بعض من وصف رجلاً من البلغاء: كانت ألفاظه قوالب لمعانيه. هذا إذا مدحوه. وقولهم إذا ذموه: هو لفظ معقد وإنه بتعقيده قد استهلك المعنى وأشباه لهذا. ثم لا يخطر ببالهم أنه يجب أن يطلب لما قالوه معنى وتعلم له فائدة ويجشم فيه فكر وأن يعتقد على الجملة أقل ما في الباب أنه كلام لا يصح حمله علم ظاهره. وأن يكون المراد باللفظ فيه نطق اللسان. فالوصف بالتمكن والقلق في اللفظ محال فإنما يتمكن الشيء ويعلق إذا كان شيئاً يثبت في مكان. والألفاظ حروف لا يوجد منها حرف حتى يعدم الذي كان قبله. وقولهم: متمكن أو قلق وصف للكلمة بأسرها لا حرف حرف منها. ثم إنه لو كان يصح في حروف الكلمة أن تكون باقية بمجموعها لكان ذلك فيها محالاً أيضاً من حيث إن الشيء إنما يتمكن ويقلق في مكانه الدني يوجد فيه. ومكان الحروف إنما هو الحلق والفم واللسان والشفتان فلو كان يصح عليها أن توصف بأنها تتمكن وتقلق لكان يكون ذلك التمكن وذلك القلق منها في إمكانها من الحلق والفم واللسان والشفتين. وكذلك قولهم: لفظ ليس فيه فضل عن معناه محال أن يكون المراد به اللفظ لأنه ليس هاهنا اسم أو فعل أو حرف يزيد على معناه أو ينقص عنه. كيف وليس بالذرع وضعت الألفاظ على المعاني وإن اعتبرنا المعاني المستفادة من الجمل فكذلك. وذلك أنه ليس هاهنا جملة من مبتدأ وخبر أو فعل وفاعل يحصل بها الإثبات أو النفي أتم أو أنقص مما يحصل بأخرى. وإنما فضل اللفظ عن المعنى أن تريد الدلالة بمعنى على معنى فتدخل في أثناء ذلك شيئاً لا حاجة بالمعنى المدلول عليه إليه. وكذلك السبيل في السبك والطابع وأشباههما لا يحتمل شيء من ذلك أن يكون المراد به اللفظ من حيث هو لفظ. فإن أردت الصدق فإنك لا ترى في الدنيا شأناً أعجب من شأن الناس مع اللفظ ولا فساد رأي مازج النفوس وخامرها واستحكم فيها وصار كإحدى طبائعها أغرب من فساد رأيهم في اللفظ. فقد بلغ من ملكته لهم وقوته عليهم أن تركهم وكأنهم إذا نوظروا فيه أخذوا عن أنفسهم وغيبوا عن عقولهم وحيل بينهم وبين أن يكون لهم فيما يسمعونه نظر ويرى لهم إيراد في الإصغاء وصدر. فلست ترى إلا نفوساً قد جعلت ترك النظر دأبها ووصلت بالهوينا أسبابها. فهي تغتر بالأضاليل وتتباعد عن التحصيل وتلقي بأيديها إلى الشبه وتسرع إلى القول المموه. ولقد بلغ من قلة نظرهم أن قوماً منهم لما رأوا الكتب المصنفة في اللغة قد شاع فيها أن توصف الألفاظ المفردة بالفصاحة ورأوا أبا العباس ثعلباص قد سمى كتابه الفصيح مع أنه لم يذكر فيه إلا اللغة والألفاظ المفردة. وكان محالاً إذا قيل: إن الشمع بفتح الميم أفصح من الشمع بإسكانه أن يكون ذلك من أجل المعنى إذ ليس تفيد الفتحة في الميم شيئاً في الذي سمي به. سبق إلى قلوبهم أن حكم الوصف بالفصاحة أينما كان وفي أي شيء كان أن لا يكون له مرجع إلى المعنى البتة وأن يكون وصفاً للفظ في نفسه ومن حيث هو لفظ ونطق لسان. ولم يعلموا أن المعنى في وصف الألفاظ المفردة بالفصاحة أنها في اللغة أثبت وفي استعمال الفصحاء أكثر أو أنها أجرى على مقاييس اللغة والقوانين التي وضعوها وأن الذي هو معنى الفصاحة في أصل اللغة هو الإبانة عن المعنى بدلالة قولهم: فصيح وأعجم أفصح الاعجمي وأفصح اللحان وأفصح الرجل بكذا: إذا صرح به. وأنه لو كان وصفهم هو لها من حيث هي ألفاظ ونطق لسان لوجب إذا وجدت كلمة يقال: إنها فصيحة على صفة في اللفظ أن لا توجد كلمة على تلك الصفة إلا وجب لها أن تكون فصيحة وحتى يجب إذا كان فقهت الحديث بالكسر أفصح منه بالفتح أن يكون سبب كل فعل مثله في الزنة أن يكون الكسر فيه أفصح من الفتح. ثم إن فيما أودعه ثعلب كتابه ما هو أفصح من أجل أن لم يكن فيه حرف كان فيما جعله أفصح منه. مثل إن وقفت أفصح من أوقفت أفترى أنه حدث في الواو والقاف والفاء بأن لم يكن معها الهمزة فضيلة وجب لها أن تكون أفصح. وكفى برأي هذا مؤداه تهافتاً وخطلاً. وجملة الأمر أنه لا بد لقولنا: الفصاحة من معنى يعرف فإن كان ذلك المعنى وصفاً في ألفاظ الكلمات المفردة فينبغي أن يشار لنا إليه وتوضع اليد عليه ومن أبين ما يدل على علم قلة نظرهم أنه لا شبهة على من نظر في كتاب تذكر فيه الفصاحة أن الاستعارة عنوان ما يجعل به اللفظ فصيحاً وأن المجاز جملته والإيجاز من معظم ما يوجب للفظ الفصاحة وأنت تراهم يذكرون ذلك ويعتمدونه. ثم يذهب عنهم أن إيجابهم الفصاحة للفظ بهذه المعاني اعتراف بصحة ما نحن ندعوهم إلى القول به من أنه يكون فصيحاً لمعناه. أما الاستعارة فإنهم إن أغفلوا فيها الذي قلناه من أن المستعار بالحقيقة يكون معنى اللفظ واللفظ تبع من حيث إنا لا نقول: رأيت أسداً ونحن نعني رجلاً إلا على أنا ندعو أنا رأينا أسداً بالحقيقة من حيث نجعله لا يتميز عن الأسد في بأسه وبطشه وجراءة قلبه فإنهم على كل حال لا يستطيعون أن يجعلوا الاستعارة وصفاً للفظ من حيث هو لفظ مع أن اعتقادهم أنك إذا قلت: رأيت أسداً كنت نقلت اسم الأسد إلى الرجل أو جعلته هكذا غفلاً ساذجاً في معنى شجاع. أفترى أن لفظ الأسد لما نقل عن السبع إلى الرجل المشبه به أحدث هذا النقل في أجراس حروفه ومذاقتها وصفاً صار بذلك الوصف فصيحاً. ثم إن من الاستعاره قبيلاً لا يصح أن يكون المستعار فيه اللفظ البتة ولا يصح أن تقع الاستعارة فيه إلا على المعنى وذلك ما كان مثل اليد في قول لبيد من الكامل: وغداة ريح قد كشفت وقرة إذ أصبحت بيد الشمال زمامها ذاك أنه ليس هاهنا شيء يزعم أنه شبهه باليد حتى يكون لفظ اليد مستعاراً له. وكذلك ليس فيه شيء يتوهم أن يكون قد شبهه بالزمام وإنما المعنى على أنه شبه الشمال في تصريفها الغداة على طبيعتها بالإنسان يكون زمام البعير في يده. فهو يصرفه على إرادته. ولما أراد ذلك جعل للشمال يداً وعلى الغداة زماماً. وقد شرحت هذا قبل شرحاً شافياً. وليس هذا الضرب من الاستعارة بدون الضرب الأول من إيجاب وصف الفصاحة للكلام لا بل هو أقوى منه في اقتضائها. والمحاسن التي تظهر به والصور التي تحدث للمعاني بسببه آنق وأعجب. وإن أردت أن تزداد علماً بالذي ذكرت لك من أمره فانظر إلى قوله من الرجز: سقته كف الليل أكؤس الكرى وذلك أنه ليس يخفى على عاقل أنه لم يرد أن يشبه شيئاً بالكف ولا أراد ذلك في الأكؤس. ولكن لما كان يقال: سكر الكرى وسكر النوم استعار للكرى الأكؤس كما استعار الآخر الكأس في قوله من البسيط: وقد سقى القوم كأس النعسة السهر ثم إنه لما كان الكرى يكون في الليل جعل الليل ساقياً. ولما جعله ساقياً جعل له كفاً إذ كان الساقي يناول الكأس بالكف. ومن اللطيف النادر في ذلك ما تراه في آخر هذه الأبيات وهي للحكم بن قنبر من الطويل: ولولا اعتصامي بالمنى كلما بدا لي اليأس منها لم يقم بالهوى صبري ولولا انتظاري كل يوم جدا غد لراح بنعشي الدافنون إلى قبري وقد رابني وهن المنى وانقباضها وبسط جديد اليأس كفيه في صدري ليس المعنى على أنه استعار لفظ الكفين لشيء ولكن على أنه أراد أن يصف اليأس بأنه قد غلب على نفسه وتمكن في صدره. ولما أراد ذلك وصفه بما يصفون به الرجل بفضل القدرة على الشيء وبأنه متمكن منه وأنه يفعل فيه كل ما يريد كقولهم: قد بسط يديه في المال ينفقه ويصنع فيه ما يشاء. وقد بسط العامل يده في الناحية وفي ظلم الناس: فليس لك إلا أن تقول: إنه لما أراد ذلك جعل لليأس كفين واستعارهما له. فأما أن توقع الاستعارة فيه على اللفظ فمما لا تخفى استحالته على عاقل. والقول في المجاز هو القول في الاستعارة لأنه ليس هو بشيء غيرها. وإنما الفرق أن المجاز أعم من حيث إن كل استعارة مجاز وليس كل مجاز استعارة. وإذا نظرنا من المجاز فيما لا يطلق عليه أنه استعارة ازداد خطأ القوم قبحاً وشناعة وذلك أنه يلزم على قياس قولهم أن يكون إنما قوله تعالى: " وكذلك يلزم أن يكون السبب في ان كان قول الشاعر من الرجز: فنام ليلي وتجلى همي أفصح من قولنا: فنمت في ليلي. أن كسب هذا المجاز لفظ الليل مذاقة لم تكن لهما. وهذا مما ينبغي للعاقل أن يستحي منه وان يأنف من أن يهمل النظر إهمالاً يؤديه إلى مثله. ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق. وإذا قد عرفت ما لزمهم في الاستعارة والمجاز فالذي يلزمهم في الإيجاز أعجب وذلك أنه يلزمهم إن كان اللفظ فصيحاً لأمر يرجع إليه نفسه دون معناه أن يكون كذلك موجزاً لأمر يرجع إلى نفسه وذلك من المحال الذي يضحك منه لأنه لا معنى للإيجاز إلا أن يدل بالقليل من اللفظ على الكثير من المعنى. وإذ لم تجعله وصفاً للفظ من أجل معناه أبطلت معناه أعني أبطلت معنى الإيجاز. ثم إن هاهنا معنى شريفاً قد كان ينبغي أن نكون قد ذكرناه في أثناء ما مضى من كلامنا وهو أن العاقل إذا نظر علم علم ضرورة أنه لا سبيل له إلى أن يكثر معاني الألفاظ أو يقللها لأن المعاني المودعة في الألفاظ لا تتغير على الجملة عما أراده واضع اللغة. وإذا ثبت ظهر منه أنه لا معنى لقولنا: كثرة المعنى مع قلة اللفظ غير أن المتكلم يتوصل بدلالة المعنى على المعنى إلى فوائد لو أنه أراد الدلالة عليها باللفظ لاحتاج إلى لفظ كثير. واعلم أن القول الفاسد والرأي المدخول إذا كان صدوره عن قوم لهم نباهة وصيت وعلو منزلة في أنواع من العلوم غير العلم الذي قالوا ذلك القول فيه ثم وقع في الألسن. فتداولته ونشرته وفشا وظهر وكثر الناقلون له والمشيدون بذكره وصار ترك النظر فيه سنة والتقليد ديناً. ورأيت الذين هم أهل ذلك العلم وخاصته والممارسون له والذين هم خلقاء أن يعرفوا وجه الغلط والخطأ فيه لو أنهم نظروا فيه كالأجانب الذين ليسوا من أهله في قبوله والعمل به والركون إليه ووجدتهم قد أعطوه مقادتهم وألانوا له جانبهم أو أوهمهم النظر إلى منتماه ومنتسبه ثم اشتهاره وانتشاره وإطباق الجمع بعد الجمع عليه أن الضن به أصوب والمحاماة عليه أولى. ولربما بل كلما ظنوا أنه لم يشع ولم يتسع ولم يروه خلف عن سلف وآخر عن أول إلا لأن له أصلاً صحيحاً وأنه أخذ من معدن صدق واشتق من نبعة كريمة وأنه لو كان مدخولاً لظهر الدخل الذي فيه على تقادم الزمان وكرور الأيام. وكم من خطأ ظاهر ورأي فاسد حظي بهذا السبب عند الناس حتى بوؤوه في أخص موضع قلوبهم ومنحوه المحبة الصادقة من نفوسهم وعطفوا عليه عطف الأم على واحدها. وكم من داء دوي قد استحكم بهذه العلة حتى أعيا علاجه وحتى بعل به الطبيب. ولولا سطان هذا الذي وصفت على الناس وأن له أخذة تمنع القلوب عن التدبر وتقطع عنها دواعي التفكر لما كان لهذا الذي ذهب إليه القوم في أمر اللفظ هذا التمكن وهذه القوة ولا كان يرسخ في النفوس هذا الرسوخ وتتشعب عروقه هذا التشعب مع الذي بان من تهافته وسقوطه وفحش الغلط فيه وأنك لا ترى في أديمه من أين نظرت وكيف صرفت وقلبت مصحا ولا تراه باطلاً فيه شوب من الحق وزيفاً فيه شيء من الفضة ولكن ترى الغش بحتاً والغلط صرفاً ونسأل الله التوفيق. وكيف لا يكون في إسار الأخذة ومحولاً بينه وبين الفكرة من يسلم أن الفصاحة لا تكون في أفراد الكلمات وأنها إنما تكون فيها إذا ضم بعضها إلى بعض ثم لا يعلم أن ذلك يقتضي أن تكون وصفاً لها من أجل معانيها لا من أجل أنفسها ومن حيث هي ألفاط و نطق لسان ذاك لأنه ليس من عاقل يفتح عين قلبه إلا وهو يعلم ضرورة أن المعنى في ضم بعضها إلى بعض تعليق بعضها ببعض وجعل بعضها بسبب من بعض لا أن ينطق ببعضها في إثر بعض من غير أن يكون فيما بينها تعلق ويعلم كذلك ضرورة إذا فكر أن التعلق يكون فيما بين معانيها لا فيما بينها أنفسها. ألا ترى أنا لوجهدنا كل الجهد أن نتصور تعلقاً فيما بين لفظين لا معنى تحتهما لم نتصور ومن أجل ذلك انقسمت الكلم قسمين: مؤتلف وهو الاسم مع الاسم والفعل مع الاسم. وغير مؤتلف وهو ما عدا ذلك كالفعل مع الفعل والحرف مع الحرف. ولو كان التعلق يكون بين الألفاظ لكان ينبغي أن لا يختلف حالها في الائتلاف وأن لا يكون في الدنيا كلمتان إلا ويصح أن يأتلفا لأنه لا تنافي بينهما من حيث هي ألفاظ. وإذا كاذ كل واحد منهم قد أعطى يده بأن الفصاحة لا تكون في الكلم أفراداً وأنها إنما تكون إذا ضم بعضها إلى بعض. وكان يكون المراد بضم بعضها إلى بعض تعليق معانيها بعضها ببعض لا كون بعضها في النطق على أثر بعض وكان واجباً إذا علم ذلك أن يعلم أن الفصاحة تجب لها من أجل معانيها لا من أجل أنفسها لأنه محال أن يكون سبب ظهور الفصاحة فيها تعلق معانيها بعضها ببعض. ثم تكون الفصاحة وصفا يجب لها لأنفسها لا لمعانيها. وإذا كان العلم بهذا ضرورة ثم رأيتهم لا يعلمونه. فليس إلا أن اعتزامهم على التقليد قد حال بينهم بين الفكرة وعرض لهم منه شبه الأخذة. واعلم أنك إذا نظرت وجدت مثلهم مثل من يرى خيال الشيء فيحسبه الشيء. وذاك أنهم قد اعتمدوا في كل أمرهم على النسق الذي يرونه في الألفاظ وجعلوا لا يحفلون بغيره ولا يعولون في الفصاحة والبلاغة على شيء سواه حتى انتهوا إلى أن زعموا أن من عمد إلى شعر فصيح فقرأه ونطق بألفاظه على النسق الذي وضعها الشاعر عليه كان قد أتى بمثل ما أتى به الشاعر في فصاحته وبلاغته. إلا أنهم زعموا أنه يكون في إتيانه به محتذياً لا مبتدئاً. ونحن إذا تأملنا وجدنا الذي يكون في الألفاظ من تقديم شيء منها على شيء إنما يقع في النفس أنه نسق إذا اعتبرنا ما توخي من معاني النحو في معانيها. فأما مع ترك اعتبار ذلك فلا يقع ولا يتصور بحال. أفلا ترى أنك لو فرضت في قوله: أن لا يكون نبك جواباً للأمر ولا يكون معدى بمن إلى ذكرى ولا يكون ذكرى مضافة إلى حبيب ولا يكون منزل معطوفاً بالواو على حبيب لخرج ما ترى فيه من التقديم والتأخير عن أن يكون نسقاً ذاك لأنه إنما يكون تقديم الشيء على الشيء نسقاً وترتيباً إذا كان التقديم قد كان لموجب أوجب أن يقدم هذا ويؤخر ذاك. فأما أن يكون مع عدم الموجب نسقاً فمحال لأنه لو كان يكون تقديم اللفظ على اللفظ من غير أن يكون له موجب نسقاً لكان ينبغي أن يكون توالي الألفاظ في النطق على أي وجه كان نسقاً. حتى إنك لو قلت: نبك قفا حبيب ذكرى من: لم تكن قد أعدمته النسق والنظم وإنما أعدمته الوزن فقط. وقد تقدم هذا فيما مضى ولكنا أعدناه هاهنا لأن الذي أخذنا فيه من إسلام القوم أنفسهم إلى التقليد اقتضى إعادته. واعلم أن الاحتذاء عند الشعراء وأهل العلم بالشعر وتقديره وتمييزه أن يبتدىء الشاعر في معنى له وغرض أسلوباً والأسلوب: الضرب من النظم والطريقة فيه فيعمد شاعر آخر إلى ذلك الأسلوب فيجيء به في شعره فيشبه بمن يقطع من أديمه نعلاً على مثال نعل قد قطعها صاحبها فيقال: قد احتذى على مثاله وذلك مثل أن الفرزدق قال من الطويل: أترجو ربيع أن تجيء صغارها بخير وقد أعيا ربيعاً كبارها. أترجو كليب أن يجيء حديثها بخير وقد أعيا كليباً قديمها وقالوا إن الفرزدق لما سمع هذا البيت قال من الوافر: إذا ما قلت قافية شروداً تنحلها ابن حمراء العجان! ومثل ذلك أن البعيث قال في هذه القصيدة من الطويل: كليب لئام الناس قد يعلمونه وأنت إذا عدت كليب لئيمها وقال البحتري من الطويل: بنو هاشم في كل شرق ومغرب كرام بني الدنيا وأنت كريمها وحكى العسكري في صنعة الشعر أن ابن الرومي قال: قال لي البحتري: قول أبي نواس من الطويل: ولم أدر من هم غير ما شهدت لهم بشرقي ساباط الديار البسابس مأخوذ من قول أبي خراش الهذلي من الطويل: ولم أدر من ألقى عليه رداءه سوى أنه قد سل من ماجد محض قال: فقلت: قد اختلف المعنى فقال: أما ترى حذو الكلام حذواً واحداً. وهذا الذي كتبت من حلي الأخذ في الحذو. ولن ينقل الحساد مجدك بعدما تمكن رضوى واطمأن متالع وقول أبي تمام من الكامل: ولقد جهدتم أن تزيلوا عزه فإذا أبان قد رسا ويلملم قد احتذى كل واحد منهما على قول الفرزدق من الكامل: فادفع بكفك إن أردت بناءنا ثهلان ذا الهضبات هل يتحلحل وجملة الأمر أنهم لا يجعلون الشاعر محتذياً إلا بما يجعلونه به آخذاً ومسترقاً. قال ذو الرمة من الوافر: وشعر قد أرقت له غريب أجنبه المساند والمحالا فبت أقيمه وأقد منه قوافي لا أريد لها مثالاً قال: يقول: لا أحذوها على شيء سمعته. فاما أن يجعل إنشاد الشعر وقراءته احتذاء فمما لا يعلمونه. كيف وإذا عمد عامد إلى بيت شعر فوضع مكان كل لفظ لفظاً في معناه كمثل أن يقول في قوله من البسيط: دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي ذر المآثر لا تذهب لمطلبها واجلس فإنك أنت الآكل اللابس لم يجعلوا ذلك احتذاء ولم يؤهلوا صاحبه لأن يسموه محتذياً ولكن يسمون الصنيع سلخاً ويرذلونه ويسخفون المتعاطي له. فمن أين يجوز لنا أن نقول في صبي يقرأ قصيدة امرىء القيس إنه احتذاه في قوله: فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازاً وناء بكلكل والعجب من أنهم لم ينظروا فيعلموا أنه لو كان منشد الشعر محتذياً لكان يكون قائل شعر. كما أن الذي يحذو النعل بالنعل يكون قاطع نعل. وهذا تقرير يصلح لأن يحفظ للمناظرة ينبغي أن يقال لمن يزعم أن المنشد إذا أنشد شعر امرىء القيس: كان قد أتى بمثله على سبيل الاحتذاء: أخبرنا عنك: لماذا زعمت أن المنشد قد أتى بمثل ما قاله امرؤ القيس ألأنه نطق بأنفس الألفاظ التي نطق بها. أم لأنه راعى النسق الذي راعاه في النطق بها فإن قلت: إن ذلك لأنه نطق بأنفس الألفاظ التي نطق بها أحلت لأنه إنما يصح أن يقال في الثاني: إنه أتى بمثل ما أتى به الأول إذا كان الأول قد سبق إلى شيء فأحدثه ابتداء وذلك في الألفاظ محال إذ ليس يمكن أن يقال إنه لم ينطق بهذه الألفاظ التي في قوله: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل قبل امرىء القيس أحد. وإن قلت: إن ذلك لأنه قد راعى في نطقه بهذه الألفاظ النسق الذي راعاه امرؤ القيس. قيل: إن كنت لهذا قضيت في المنشد أنه قد أتى بمثل فأخبرنا عنك إذا قلت: إن التحدي وقع في القرآن إلى أن يؤتى بمثله على جهة الابتداء ما تعني به أتعني أنه يأتي في ألفاظ غير ألفاظ القرآن بمثل الترتيب والنسق الذي تراه في ألفاظ القرآن فإن قال: ذلك أعني. قيل له: أعلمت أنه لا يكون الإتيان بالأشياء بعضها في إثر بعض على التوالي نسقاً وترتيباً حتى تكون الأشياء مختلفة في أنفسها ثم يكون للذي يجيء بها مضموماً بعضها إلى بعض غرض فيها ومقصود لا يتم ذلك الغرض وذاك المقصود بأن يتخير لها مواضع فيجعل هذا أولاً وذاك ثانياً فإن هذا ما لا شبهة فيه على عاقل. وإذا كان الأمر كذلك لزمك أن تبين الغرض الذي اقتضى أن تكون ألفاظ القرآن منسوقة النسق الذي تراه. ولا مخلص له من هذه المطالبة لأنه إذا أبى أن يكون المقتضي الموجب للذي تراه من النسق المعاني وجعله قد وجب لأمر يرجع إلى اللفظ لم تجد شيئاً يحيل الإعجاز في وجوبه عليه البتة. اللهم إلا أنه يجعل الإعجاز في الوزن ويزعم أن نسق الذي تراه في ألفاظ القرآن إنما كان معجزاً من أجل أن كان قد حدث عنه ضرب من الوزن يعجز الخلق عن أن يأتوا بمثله وإذا قال ذلك لم يمكنه أن يقول: إن التحدي وقع إلى أن يأتوا بمثله في فصاحته وبلاغته. لأن الوزن ليس هو من الفصاحة والبلاغة في شيء إذ لو كان له مدخل فيهما لكان يجب في كل قصيدتين اتفقتا في الوزن أن تتفقا في الفصاحة والبلاغة. فإن عاد بعض الناس طول الإلف لما سمع من أن الإعجاز في اللفظ إلى أن يجعله في مجرد الوزن كان قد دخل في أمر شنيع وهو أن يكون قد جعل القرآن معجزاً من حيث هو كلام ولا بما كان لكلام فضل على كلام فليس بالوزن ما كان الكلام كلاماً ولا به كان كلام خيراً من كلام. وهكذا السبيل إن زعم زاعم أن الوصف المعجز هو الجريان والسهولة. ثم يعني بذلك سلامته من أن تلتقي فيه حروف تثقل على اللسان لأنه ليس بذلك كان الكلام كلاماً ولا هو بالذي يتناهى أمره إن عد في الفضيلة إلى أن يكون الأصل وإلى أن يكون المعول عليه في المفاضلة بين كلام وكلام. فما به كان الشاعر مفلقاً والخطيب مصقعاً والكالب بليغاً. ورأينا العقلاء حيث ذكروا عجز العرب عن معارضة القرآن قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم تحداهم وفيهم الشعراء والخطباء والذين يدلون بفصاحة اللسان والبراعة والبيان وقوة القرائح والأذهان والذين أوتوا الحكمة وفصل الخطاب. ولم نرهم قالوا: إن النبي عليه السلام تحداهم وهم العارفون بما ينبغي أن يصنع حتى يسلم الكلام من أن تلتقي فيه حروف تثقل على اللسان ولما ذكروا معجزات الأنبياء عليهم السلام. وقالوا: إن الله تعالى قد جعل معجزة كل نبي فيما كان أغلب على الذين بعث فيهم وفيما كانوا يتباهون به وكانت عوامهم تعظم به خواصهم. قالوا: إنه لما كان السحر الغالب على قوم فرعون ولم يكن قد استحكم في زمان استحكامه في زمانه جعل تعالى معجزة موسى عليه السلام في إبطاله وتوهينه. ولما كان الغالب على زمان عيسى عليه السلام الطب جعل الله تعالى معجزته في إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى. ولما انتهوا إلى ذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وذكر ما كان الغالب على زمانه لم يذكروا إلا البلاغة والبيان والتصرف في ضروب النظم. وقد ذكرت في الذي تقدم عين ما ذكرته هاهنا مما يدل على سقوط هذا القول. وما دعاني إلى إعادة ذكره إلا أنه ليس تهالك الناس في حديث اللفظ والمحاماة على الاعتقاد الذي اعتقدوه فيه وضن أنفسهم به إلى حد. فأحببت لذلك أن لا أدع شيئاً مما يجوز أن يتعلق به متعلق ويلجأ إليه لاجىء ويقع منه في نفس سامع شك إلا استقصيت في الكشف عن بطلانه. وهاهنا أمر عجيب وهو أنه معلوم لكل من نظر أن الألفاظ من حيث هي ألفاط وكلم ونطق لسان لا تختص بواحد دون آخر وأنها إنما تختص إذا توخي فيها النظم. وإذا كان كذلك كان من رفع النظم من البين وجعل الإعجاز بجملته في سهولة الحروف وجريانها جاعلاً له فيما لا يصح إضافته إلى الله تعالى وكفى بهذا دليلاً على عدم التوفيق وشدة الضلال عن الطريق. قد بلغنا في مداواة الناس من دائهم وعلاج الفساد الذي عرض في آرائهم كل مبلغ وانتهينا إلى كل غاية وأخذنا بهم عن المجاهل التي كانوا يتعسفون فيها إلى السنن اللاحب ونقلناهم عن الآجن المطروق إلى النمير الذي يشفي غليل الشارب. ولم ندع لباطلهم عرقاً ينبض إلا كويناه ولا للخلاف لساناً ينطق إلا أخرسناه. ولم نترك غطاء كان على بصر ذي عقل إلا حسرناه. فيا أيها السامع لما قلناه والناظر فيما كتبناه والمتصفح لما دوناه إن كنت سمعت سماع صادق الرغبة في أن تكون في أمرك على بصيرة ونظرت نظر تام العناية في أن يورد ويصدر عن معرفة وتصفحت تصفح من إذا مارس باباً من العلم لم يقنعه إلا أن يكون على ذروة السنام ويضرب بالمعلى من السهام فقد هديت لضالتك وفتح الطريق إلى بغيتك وهي لك الأداة التي بها تبلغ وأوتيت الآلة التي معها تصل. فخذ لنفسك بالتي هي أملاً ليديك وأعود بالحظ عليك ووازن بين حالك الآن وقد تنبهت من رقدتك وأفقت من غفلتك وصرت تعلم إذا أنت خضت في أمر اللفظ والنظم معنى ما تذكر وتعلم كيف تورد وتصدر وبينها وأنت من أمرها في عمياء وخابط خبط عشواء. قصاراك أن تكرر ألفاظاً لا تعرف لشيء منها تفسيراً وضروب كلام للبلغاء إن سئلت عن أغراضهم فيها لم تستطع تبييناً فإنك تراك تطيل التعجب من غفلتك وتكثر الاعتذار إلى عقلك من الذي كنت عليه طول مدتك. ونسأل الله تعالى أن يجعل كل ما نأتيه ونقصده وننتحيه لوجهه خالصاً إلى رضاه عز وجل مؤدياً ولثوابه مقتضياً وللزلفى عنده موجباً بمنه وفضله ورحمته.
|